فصل في ابتداء فرض صيام رمضان
افترض الله صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكانت الشرائع تنزل تدريجيًًّا شيئًا بعد شيء، وكان في ابتداء فرضه بحالة هي أشد وأشق منها الآن، وذلك بأنهم أمروا متى صلوا العشاء أو نام أحدهم قبلها فإنه يجب عليه أن يمسك صائمًا طول ليله مع نهاره، ومع ذلك فقد قالوا: سمعنا وأطعنا. لكنهم أدركهم شيء من المشقة في الصوم بهذه الصفة حتى إن أحدهم أتى إلى امرأته يريد منها حاجته، فقالت له: إني قد صليت العشاء ونويت الصيام فلا يحل لك شيء مما تريد، فكذبها لظنه أنها تريد إبعاده عنها بدون سبب. ورجل آخر أفطر على الماء بدون أن يجد شيئًا يفطر عليه من الأكل فذهبت امرأته تلتمس له فطورًا، فلما جاءت وجدته قد نام ووجب عليه الصيام، فقالت له: تعسًا لك فطرت جائعًا وصمت جائعًا. فأنزل الله قوله: ﴿عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ﴾
[البقرة:187].
يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ ﴾ [البقرة: 183-184]
فنادى - سبحانه- عباده المؤمنين باسم الإيمان بعدما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم وانقادت للعمل به جوارحهم وعملوا به في سرائهم وضرائهم فيما يحبون وفيما يكرهون، فلا توجد هذه الصيغة إلا في السور المدنيات. والإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، فقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ﴾ أي فرض فرضًا محتمًا؛ لأن صوم رمضان هو أحد أركان الإسلام لما في الصحيحين من حديت ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ لِمَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». فهذه هي أركان الإسلام، بل هي الإسلام لما روى مسلم عن عمر بن الخطاب في سؤال جبريل حين قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». فقال: صدقت.
فمن جحد وجوب صوم رمضان فهو كافر بإجماع علماء الإسلام، والصوم هو من الشرائع القديمة فلا تزال الأمم قبلنا تعبد الله بالصوم، كما قال سبحانه: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ [البقرة: 183]، ولا يلزم أن يكون صوم الأمم قبلنا كمثل صومنا في الزمان والعدد، لأن لكل نبي شريعة توافق حالة زمانه وأمته، كما قيل من أن النصارى مفروض عليهم في شريعتهم صيام خمسين يومًا، لكنهم يجيزون لعلمائهم القسيسين أن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون، فلما رأوا أن الصوم تطول مدته عليهم، وأنه يحول بينهم وبين شهواتهم، أسقطوا منه عشرًا ثم عشرًا حتى أسقطوه بجملته وجعلوا صومهم عن مجرد الفاكهة فقط.
فجاءت شريعة محمد ﷺ ناسخة لجميع الشرائع التي قبلها وأنه لا يجوز لأحد العمل بغيرها، لأنها خاتمة الشرائع والمهيمنة عليها، كما أن رسول الله ﷺ هو خاتم النبيين، وقد عدوا من أنواع الردة عن الإسلام كون الإنسان يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158].
أقْبل شهر رمضان المبارك ففرح به المؤمنون وكرهه الزنادقة الملحدون. فالمؤمنون لا يزالون في صلاة وصيام وتلاوة قرآن وبسط يد بالصدقة والصلة والإحسان، فهم في نهارهم صائمون صابرون، وفي ليلهم طاعمون شاكرون، أولئك هم المؤمنون، أما المنافقون فإنهم يجاهرون فيه بالإفطار وتمد لهم الموائد بالنهار، قد جمعوا بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار. ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣﴾ [الحجر: 2-3].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». ومعنى إيمانًا: أي بالوجوب واحتسابًا للثواب. وهذا التكفير إنما يراد به تكفير الصغائر فقط في قول الجمهور. أما الكبائر مثل: الربا والزنا وشرب الخمر وقتل النفس وأكل أموال الناس، فإنه لا يكفرها الصوم ولا الصلاة ولا الحج، وإنما يكفرها التوبة بشرطها ورد المظالم إلى أهلها، كما ورد مشروطًا بذلك.. ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَعَرَفَ حُدُودَهُ، وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْهُ، كَفَّرَ ذَلِكَ مَا قَبْلَهُ».
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» وترك الطاعات من فرائض الصوم والصلاة هو من أكبر الكبائر، لأن ترك فرائض الطاعات أعظم من ارتكاب المنكرات.
وقول الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ [البقرة: 183] قال ابن كثير: يقول الله مخاطبًا المؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله - عز وجل- لما فيه من زكاة للنفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم، فقد أوجبه على من كان قبلهم. فلهم فيهم أسوة حسنة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك. انتهى.
وفيه تشبيه للفرض بالفرض دون الصفة في الوقت والعدد، وقد قيل: إن الحكمة في فرض الصيام هو أن يذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى أخاه المعوز الفقير، مع العلم أن الشرائع كلها من الصلاة والزكاة والصيام قد جعلها الله بمثابة التمحيص لصحة الإيمان، ﴿لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ﴾ [الأنفال: 37]. وهذا معنى قوله: ﴿لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾، فإن حقيقة التقوى هي أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله فهي بمثابة التمحيص لصحة الإيمان. فإن حكمة الله تأبى أن يترك الناس سدى بدون اختبار لهم بالأعمال. يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢﴾ [العنكبوت: 2]: أي لا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون. ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ﴾ [العنكبوت: 3]: أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ﴾ [العنكبوت: 3] في دعوى إيمانهم فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣﴾ [العنكبوت: 3] الذين يقولون: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وكان حظهم من الإسلام هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، بدون عمل به ولا انقياد لحكمه. فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل. والله أعلم.
* * *