فصل في فضل العمل بشرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام
اعلم أن شرائع الإسلام هي تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية، فلا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرّم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وهذه الشرائع الإسلامية هي أم الفرائض والفضائل والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، تهذب الأخلاق وتطهّر الأعراق وتزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، لهذا يبعد جدًّا أن ينشأ عن المتخلق بها شيء من الجرائم الفظيعة والفواحش الشنيعة، لأن دينه سينهاه، فكل متدين بدين صحيح فإنه متمدن ولو بدر منه غلطة أو خطيئة بادر إلى التوبة منها والإقلاع عنها، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١﴾ [الأعراف: 201]
وإنما تنشأ الحوادث الفظيعة والجرائم الشنيعة من العادمين للدين، الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، لأن من لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.. ثم إن الشرائع الإسلامية قد جعلها الله بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. لأن الله سبحانه بحكمته وعدله لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان ينطق به البر والفاجر والمسلم والكافر، وحتى عبّاد القبور والأوثان يقولون هذا وهم يعبدون الأولياء والأصنام. ولهذا نصب الله سبحانه هذه الأعمال بمثابة الشهادة على صحة الإسلام، لأن الإسلام هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان. وقد روى الإمام أحمد عن أنس أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ».
ومعنى كون الإسلام علانية: أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي مع المسلمين ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه. لأن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه. [143] كما ورد في الحديث: فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل.
وإنما سمي المسلم مسلمًا لاستسلامه لله بالطاعة والإذعان، وانقياده للعمل بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وبصيام رمضان وسائر شرائع الإسلام. وهذه الشرائع بما أنها تكسب صاحبها الفضائل في الدنيا فإنها تكسبه أيضًا الفوز بالجنة والنجاة من النار.
كما في سؤال معاذ، حين قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ثم قال: «وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ». ثم تلا: ﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ١٦﴾ [السجدة: 16]، ثم قال: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟» قلت: بلى يا رسول الله. قال: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ». رواه الترمذي.
إنه لولا العمل بشرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام، لكان الناس بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والزكاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الأخلاق والكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. يقول الله: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤﴾ [الفرقان: 44].
فجعلهم سبحانه أضل من الأنعام: أي البهائم من أجل أنهم لم يستعملوا مواهب عقولهم وأسماعهم وأبصارهم في سبيل ما خلقت له من عبادة ربهم. ورضوا بأن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام، أولئك كالأنعام بل هم أضل.
* * *
[143] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين من حديث أبي الدرداء.