تنبيه هام لذوي العلوم والأفهام
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في كتاب إعلام الموقعين:
فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد. قال: وهذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به، لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها.. إلخ.
وأقول: لقد سمعنا من بعض المنتسبين إلى العلم بأنهم يبدون إنكارهم لهذه القاعدة، ويعارضونها بالتفنيد وعدم التسديد لزعمهم أنها مخالفة لنصوص الدين وأصوله التي لا تتغير ولا تتبدل بتغير الزمان والمكان والأحوال، فهذا مثار الإشكال الذي حصل بسببه الإنكار.
وخفي على هؤلاء أن العلامة ابن القيم لم يقل بجواز تغير الدين وقواعده وعقائده، وإنما يتكلم بتغير الفتوى في فروع العبادات التي حقق العلماء أن للاجتهاد فيها مجالاً، ولم يقل بهذا إلا وعنده مستند صحيح من النصوص والأصول تثبت صحة ما يقول ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ﴾ [النساء: 83] والاستنباط هو استثارة ما عسى أن يكون خفيًّا على بعض الأذهان بحيث يبرزه باستنباطه إلى العيان، ومما يدل على تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال ما روى الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني عن عمرو بن العاص، أنه لما بُعث في غزوة ذات السلاسل قال: فاحتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله ﷺ ذكروا ذلك له، فقال: «يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟!». قلت: نعم يا رسول الله، وذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩﴾ [النساء: 29] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه ولم يقل شيئًا، فدل هذا الحديث على أن سكوت رسول الله ﷺ عن الإنكار عليه هو حقيقة في الإقرار على فعله، وهذه مما تتغير بها الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال. إذ الأصل لواجد الماء أن يمسه بشرته، لقول الله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ﴾ [المائدة: 6] وفي الحديث «الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ إذا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَلْيُمِسَّهُ بَشْرَتَهُ»[139].
ومثله ما روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان في أبياتنا رُويجلٌ ضعيف فخبث بأمةٍ من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله ﷺ، فقال: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ»، فقال سعد: إنه أضعف من ذلك. فقال: «خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» ففعلوا. ذكره ابن حجر في بلوغ المرام من أصول الأحكام، فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله ﷺ من حالة الشدة إلى حالة التسهيل لتغير حالة هذا الشخص، إذ الأصل في الجلد في الحد أن يفرق على جسده ضربة ضربة موجعة، ونظرًا لضعف حاله جعله رسول الله ﷺ ضربة واحدة وبعثكول فيه مائة شمراخ، فماذا ترى يقول المعترض على هذه الفتوى؟!
ومن ذلك ما روى البخاري ومسلم وأهل السنن، قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ بِهِ رَقَبَةً؟» قال: لا، قال: «وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قال: لا. قال: «وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» قال: لا. ثم جلس فأُتي النبي ﷺ بعرق فيه تمر، وقال: «اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهِ» فقال: أفعلى أفقر منا؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا، فضحك رسول اللهﷺ حتى بدت نواجذه، ثم قال: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ».
فهذه فتوى رسول الله ﷺ، وقد عرفت كيف تغيرت من حالة الشدة التي هي الأصل في التكفير إلى حالة التسهيل والتيسر، حيث تحمل عنه رسول الله ﷺ أعباء التكفير بالإطعام، ثم تصدق به عليه وعلى أهله، والدين هو الدين لا يتغير بتغير الأحوال، وإنما الإفتاء في مثل هذه المسائل الفروعية يتغير من حالة إلى حالة.
ومثله فتوى الصحابة للحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو على ولديهما بأن يفطرا ويقضيا بدله، وقد صدرت هذه الفتوى عن اجتهاد منهم بدون أن يوجد فيها نص عن رسول اللهﷺ، وهذه الفتوى مما يتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل أن الصوم يجب على كل مسلمة بالغة عاقلة ليست بمريضة ولا مسافرة ولا حائض ولا طاعنة في السن. فالمرأة الحامل القوية الصحيحة الجسم لا يقبل منها دعوى الخوف على نفسها من الصيام، لأن نساء المسلمين الحوامل والمراضع في سائر الأزمان والأقطار من بدو وحاضرة، يصمن رمضان شتاءً وصيفًا ولا يتأثرن من الصيام فلا يجوز أن تفتَى بالفطر والحالة هذه كل امرأة.
أما المرأة الضعيفة النحيفة التي تعلم أن الصوم يشق عليها فوق المشقة المعتادة وتخاف على نفسها، فإنه يجوز أن تفتَى بالفطر ولكل سؤال جواب، ولكل مقام مقال.
وقد استدل العلامة ابن القيم - رحمه الله- لهذه القاعدة بإسقاط عمَر حد السكر عن أبي محجن، بسبب ما أبلى به من قتال الكفار، ورأى أن جريمته بمثابة نقطة النجاسة غمرها الماء الكثير فغسلها، لأن الحسنات يذهبن السيئات.
واستدل لهذه القاعدة أيضًا بإسقاط عمر حد القطع في السرقة زمن المجاعة ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة، ولهذا يعد من باب تعارض المانع للمقتضي، وكون المشقة تجلب التيسير.
وإذا اتسعت علوم الشخص وأعطي فهمًا لصحة الاستدلال والاستنباط، فإنه يتسع رحبه لتقبل مثل هذه القاعدة ويعلم بطريق اليقين أن لها أصلاً من السنة ترد إليه وتقاس عليه. أما من نقص علمه وتحجر رأيه وجمد فهمه، فإنه يضيق ذرعه بكل ما يخالف رأيه وينكر كل ما لم يحط بعلمه وذلك لا يغنيه من الحق شيئًا.
ذلك بأنني لما أفتيت بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق حينما رأيت الناس من مشارق الأرض ومغاربها قد وفدوا إلى الحج من كل فج فأقبلوا إليه يجأرون وفي كل زمان يزيدون، فعظم الجمع واشتد الزحام وضاق ذرع الأمة بهذا المقام وصاروا يحصون وفيات الزحام في كل عام، لأن الجمع كثير وحجم المرمى صغير وزمن الرمي قصير، لأن الفقهاء المتقدمين قد حددوا وقت الرمي بما بين الزوال إلى الغروب، وأنه لو رمى قبل الزوال أو بالليل لم يجزه، لهذا فقد ظن من ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، وأنه لن تتغير الفتوى فيه بحال وصار هذا الفهم هو العامل الأكبر في حصول الضرر وتوسيع دائرة الخطر، ولو فكروا بإمعان ونظر لوجدوا في الشريعة السمحة طريق المخرج عن هذا الحرج، فرحم الله العلامة ابن القيم وعفا عنه ونفعنا وإخواننا المسلمين بعلومه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
[139] أخرجه البزار من حديث أبي هريرة.