متقدم

فهرس الكتاب

 

إلى حضرة علماء الرياض الكرام، حفظهم الله بالإسلام[130]

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام.

أما بعد: فإني أرفع لعامة العلماء الأعلام ومصابيح الظلام، التعريف عن تأليفي للمنسك اللطيف الذي سميته (يسر الإسلام وبيان أشياء من مناسك حج بيت الله الحرام)، أرسلت لكم عددًا منه متبوعًا بالمسؤولية عنه، لقول الله تعالى: ﴿فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ [النحل: 43-44]، لأني وإن كنت أرى في نفسي أني أصبت فيه مفاصل الإنصاف والعدل، ولم أنزع فيه إلى ما ينفيه الشرع أو يأباه العقل، لكنني أعرف أني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، وأنتم من الفقه والإتقان بمكان، تعرفون النصوص ولا تخفى عليكم القصود، وهذا المسؤول عنه بين أيديكم معروض، والقول منكم بما يستحقه مفروض، فعلى كل أخ مخلص أن يجيل فيه النظر بإمعان وتفكر، وذلك بأن يعيد دراسته، ويعجم عود فراسته ليتضح له على الجلية معناه، ويقف على حقيقة مغزاه، فإن تبين أني خلطت في الدراية وأخطأت في الرواية وجئت قولاً إدًّا، وجُرت عن الحق قصدًا؛ وجب عليه أن يسددني من الهفوة ويسندني من الكبوة، ويكشف لي بكتاب عن وجه ما خفي علي من الصواب؛ لأن الحق أحق أن يتبع والعلم جدير بأن يستمع، والقصد واحد والغاية متساوية، وكل على حسبه من العلم بكتاب ربه وسنة نبيه.

والله يعلم، وهو عند لسان كل قائل وقلبه، أني لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرص في الأحكام ولا التقول بلا علم في أمور الحلال والحرام، وإنما بنيت أصول ما قصدت على النصوص الجلية والبراهين القطعية، قارنًا كل قول بدليله، مميزًا بين صحيحه وعليله، ودعوت فيها الناس إلى ما دعاهم كتاب ربهم وسنة نبيهم من السماحة واليسر، بدل ما وقعوا فيه من الحرج والعسر، في خاصة الرمي والقول بسعة وقته، إذ هو معرض ضرر وموضع خطر على خاصة نفوس الضعفة وكافة الناس، فضج منها مَنْ حُجته أنها خلاف ما عليه عمل الناس، وأن القول بها يعد شذوذًا في القياس، وسمعت من استدلالهم في اعتراضهم قوله ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[131] وأنه رمى في اليوم الثاني والثالث بعد الزوال، ولم يشعر هذا المعترض أن هذا الاستدلال هو عمدتي في المنقول، وعدتي التي بها أصول وأجول.

وقد أجبت في الرسالة على فرض تقدير هذه المقالة من أن تركه الرمي قبل الزوال لا يدل على أنه غيرُ وقتٍ له، كما ترك الوقوف بعرفة بعد العشاء إلى طلوع الفجر، وهو وقت له، مع أنه لم يتركه، وما كان ربك نسيًّا، فقد رمى في أول يوم من أيام منى ضحى، ثم رمى بقية الأيام بعد الزوال. وفعله في هذا وهذا هو مشروع منه لأمته، وإعلام منه بسعة وقته، تأجل العمل به إلى وقت حاجته، فمن قال باختصاص الجواز بيوم العيد فهو مطالب بالدليل ولن يجد إليه من سبيل، ومن كان استناده في استدلاله إلى فعل النبي ﷺ، في اليوم الثاني والثالث، مع إعراضه وعدم نظره إلى فعله ﷺ في اليوم الأول، وقوله لما سئل عن التقديم والتأخير: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[132] لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة في خاصة يوم العيد، من غير تأخير، كفعله عليه الصلاة والسلام، وكذلك الحلق والتقصير، على أنه لم يقل بذلك أحد ممن يعتد به، وإنما جعلوه موسعًا يفعله متى شاء ليلاً أو نهارًا، وكذلك رمي الجمار إذ ليس عندنا أن رميها فيما بين الزوال الى الغروب كان على المؤمنين كتابًا موقوتًا.

وقد ذكر بعض العلماء علة تأخيرها إلى الزوال، وأنه إنما أخرها إلى ما بعد الزوال لقصد أن يصلي بالناس الظهر بمسجد الخَيْف من منى، فيخرج للصلاة وللرمي خروجًا واحدًا كما فعل، فإنه لما فرغ من رمي الجمار انصرف إلى المسجد فصلى بالناس فيه، وذكرهم أحكام حجهم، وقد قلت في الرسالة: إنه لو كان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ بنص جلي قطعي الرواية والدلالة، وارد مورد التكليف العام، إذ لا يجوز في الشرع تأخير بيان مثل هذا عن وقت حاجته، وقلت أيضًا: إنه لو كان التقدير بهذا الزمن القصير شرطًا لَسقط للعجز عنه، أو لجاز تقديمه محافظة على أصل فعله؛ لأن القول بلزومه يستلزم الحكم بسقوطه في خاصة هذه الأزمان مع شدة الزحام، بحيث إنه صار في حق أكثر الناس من تكليف ما لا يستطاع، ولا يقول بلزومه على الجمع الكثير في خاصة هذا الوقت القصير إلا من يحاول حطمة الناس وعدم رحمتهم، فهو يحكم على كل فرد بأن يزاول وصوله حتى ولو مات دونه؛ لأن هذا من لوازم قوله، إذ من المعلوم عند كل أحد أنه من الأمر الصعب مزاولة وصولها وتحقق وقوع الجمار فيها، وصار أكثر الناس يقع رميهم خارجًا عن الأحواض بعيدًا عنها، فقولنا سعة الوقت هو مما يؤهل كل أحد للرمي بسهولة وسعة، ويعلم على سبيل اليقين أن رميه قد وقع موقعه.
إذا شئت أن تُعصى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
ولما كان القول به والحكم بموجبه مستغربًا جدًّا عند الناس، بحيث لم يتمرنوا على سماعه ولا على العمل به، بينت من الدلائل في مقدمته ما يكون مؤذنًا بصحته، ولم ألقه ساذجًا من دليل الحكم وعلته؛ لأنني أخذت فيما قلت بالأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها، وأنه لا حول ولا قوة لي إلا بها.

وقد علمتم - عفا الله عنكم - أن أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره، كما قال عمر: انظروا إلى حذوها من طريقكم. [133] ) وأنه لو وقع عليهم هذا الزحام في هذا المقام على نحو هذه الصفة في هذا الزمان لنادوا له: الصلاة جامعة. ثم نظروا في أمرهم وتبادلوا رأيهم فيما يجمع لأمتهم بين القيام بواجب حجهم مع سلامة أرواحهم؛ لأنهم على دين مبني على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المضار وتقليلها، ومن قواعد الفقه الإسلامي الذي عبوا منه ونهلوا: أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، وقد اجتهدوا زمن النبي ﷺ وعرضوا رأيهم على رأيه في الشيء الذي لم يقله عن وحي من ربه، واجتهدوا بعده في كثير من القضايا المشتهرة التي لم يرد نص صحيح عن النبي ﷺ بما صنعوا منها، لكنهم رأوها مصلحة تناسب تصرفات الشارع الحكيم؛ لأن ذلك كله راجع إلى حفظ الشريعة ومنع الذريعة، والشارع الحكيم قد منع الذرائع المفضية إلى المفاسد، فالقول بتوسعة الوقت للرمي هي من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله، ومتى عرضت حكمتها على العقول تلقتها بالقبول، كيف وقد احتف بها أصل من المنقول.

وإنني في مثل هذا المقام، أُذكِّر فقهاء الإسلام كلامًا ساقه العلامة ابن القيم في الإعلام من ذكر العلل والأحكام، قال ما نصه:

فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد. قال: وهذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي كلها عدل ورحمة ومصالح وحكمة فكل مسألة خرجت عن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل... انتهى.

وأما القول بسقوط الرمي أيام التشريق عن المعذورين بمرض أو ضعف حال من النساء والكبار والعجزة وسائر من لا يستطيع الوصول إلى ذلك المقام من غير أن يستنيب وبدون تكفير:

فهذه أيضًا مما عظم على بعض الإخوان أمرها وأكبروا على احتقاب وزرها، وهي شكاة قد ذهب عني عارها، فقد استندت في استدلالي عليها بحديث عاصم بن عدي في الرعاة، وبحديث العباس في السقاة، وأن النبي ﷺ رخص لهؤلاء في البيتوتة عن منى، من غير أن يأمرهم باستنابة من يبيت مكانهم مع كونه ممكنًا، والرمي هو شقيق المبيت في الوجوب بمنى، فكانا في الحكم سواء؛ لأن كليهما يفعل بعد التحلل من أعمال الحج، ومن المعلوم أن عذر هؤلاء الضعفة أشد من عذر الرعاة والسقاة، فكانوا أحق بالرخصة بدون استنابة.

وقد أسقط الفقهاء من الحنابلة المبيت بمزدلفة عن الرعاة والسقاة قياسًا على هذا، قال في الإقناع: وليس على أهل السقاة والرعاة مبيت بمنى ولا بمزدلفة، وقيل: أهل الأعذار كالمريض ومن له مال يخاف ضياعه ونحوه، حكمهم حكم الرعاة والسقاة في ترك البيتوتة. انتهى.

قال في الكشاف: جزم به الموفق والشارح وابن تميم.

ثم إن المعارضين يوافقون على عدم الاستنابة في الوقوف بعرفة ولا بمزدلفة، ولا المبيت بمنى، ولا الحلق ولا التقصير، لعدم ما يدل على مشروعيتها، وهذا منها.

فمن أين أتى وجوب اختصاص الاستنابة في الرمي دون نظيره في الحكم؟ بل إن سقوط الرمي عن المعذور ثابت بالنص من إذن النبي ﷺ للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ولم يأمره بأن يستنيب، فما بالك بسقوطه عمن لا يستطيع الوصول إليه من النساء والشيوخ والضعفة بدون استنابة، وكيف ينازع في هذا فقيه مع علمه أن الحج بجملته يسقط عمن لا يستطيعه، بنص الكتاب والسنة؟

وأما الاعتراض بدعوى أنها خلاف ما عليه عمل الناس فإنها دعوى داحضة وحجة غير ناهضة، فإن عدم عمل الناس للشيء ليس دليلاً على بطلانه في الشرع، كما أن فعلهم للشيء لا يدل على صحته في الشرع، فقد رأينا الناس يفعلون في الحج أشياء من المخالفة لا يجوز أن يتابعوا عليها، بل ولا يقروا على فعلها، وإن كان لهم فيها وجه تأويل، منها:

الدفع من مزدلفة، فقد رأينا كثيرًا من الناس يدفعون قبل نصف الليل وهم أصحاء أقوياء ومنهم العلماء الفقهاء، مع العلم بأن النبي ﷺ وأصحابه وقفوا بها حتى الفجر وأسفروا جدًّا، ولم يرخص النبي ﷺ في الدفع لأحد قبله سوى الضعفة من الغلمان والنساء، وقال: «مَنْ شَهِدَ صَلاَتَنَا هَذِهِ - يَعْنِي بِالْمُزْدَلِفَةِ -، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً، أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ أَتَمَّ حَجَّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ»[134]، وفي القرآن الكريم ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ [البقرة: 199] والناس هم الرسول وأصحابه، وهم إنما أفاضوا بعدما صلوا الفجر وأسفروا جدًّا، فدل على أن الدفع قبل وقته فيه مخالفة واضحة، ولم نجد من أنكره على فاعله.

ومنها: رمي جمرة العقبة بالليل، فإن هؤلاء الذين يدفعون يجمعون بين الدفع قبل أوانه وإساءة الرمي قبل دخول وقته؛ لأن رمي جمرة العقبة من عمل يوم العيد، أشبه نحر النسك والحلق والتقصير.

وقد أجمع العلماء على أن النبي ﷺ إنما رمى جمرة العقبة ضحى، وفي حديث ابن عباس، قال: أرسلنا رسول الله ﷺ أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع بليل، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: «أَيْ بَنِيَّ، لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» رواه مسلم. فاستباح أكثر الناس مخالفة هذه النصوص فصاروا يدفعون بالليل ويرمون الجمرة بالليل، ويأتون المسجد الحرام بالليل من غير أن يجد أحدهم في نفسه حرجًا من فعله، من أجل أنهم وجدوا المجلدات التي يقرؤونها في الفقه تجيز ذلك لهم، فقبلوها قاعدة مسلَّمة لا مجال فيها للمماحلة، بينما ينكر أحدهم ما يعد بعيدًا عن المخالفة من القول بجواز الرمي قبل الزوال الثابت مشروعيته بالنص القطعي من أن النبي ﷺ ما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[135].
والكل إلا الفرد يقبل مذهبًا
في قالب ويرده في ثاني
وأما الاحتجاج على الجواز بحديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. رواه أبو داود، فقد ذكر ابن القيم أنه مضطرب وأن حديث ابن عباس أصح منه، ومن أراد الوقوف على كلام الرواة فليراجع زاد المعاد، فإنه قد أسهب في البحث عن حقيقته.

وأما الاعتراض بدعوى انفرادي بهذا القول مع كون غيري أرسخ في العلم وأرقى في العقل والفهم، فقد بينت في الرسالة تسمية من سبق إلى هذه المقالة، والفضل للمتقدم، وعلى فرض ما ذكروا، فإن العلماء متفقون قاطبة على أنه لا يترك حق لانفراد قائله، كما أنه لا يقبل باطل لكثرة ناقله، وأن من كان على الحق فهو أمة ولو كان وحده.

فهذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قد خالف سائر الفقهاء، حتى الأئمة الأربعة في الوقف على الذرية، فحقق القول ببطلانه في رسالة ممتعة، ذكرها ابن القاسم في المجموع. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، قد خالف الأئمة فيما يزيد على سبع عشرة مسألة، بل أنهى برهان الدين ابن القيم مخالفته لبعضهم إلى ما يزيد عل خمسين مسألة، منها: الطلاق بالثلاث بلفظ واحد وكونها عن واحدة، ومنها: اليمين بالطلاق وأن فيه إذا حنث كفارة يمين، وقد شن شانئوه عليه من أجلها الغارات وعقدوا لقتله الجمعيات بعد الجمعيات، كفروه بحجة أنه خرق الإجماع العام وأباح للناس الفرج الحرام، ومع هذا كله فقد ازداد قوله نورًا، وعاد قول معاديه بورًا ورأيهم ثبورًا. ومن المسائل التي خالف الأئمة فيها كون المتمتع يكفيه سعي واحد كالقارن؛ لأن مسماهما في كتاب الله واحد، فالقارن اسم للمتمتع، كما أن المتمتع اسم للقارن، وأن هذا هو معنى قوله ﷺ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[136].

ومنها: المرأة التي حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة، وخشيت على نفسها إن تخلفت عن رفقتها، فأفتاها بأن تطوف وهي حائض وبه يصح حجها.

فاستباح بهذه الفتوى نهييْن مؤكدين: أحدهما: دخولها المسجد الحرام وهي حائض، وقد قال النبي ﷺ: «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ»[137]، والثاني: طوافها قبل التطهر وانقطاع الموجب. وقد قال النبي ﷺ لعائشة: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ ألَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[138]؛ لأنه لدقيق فقهه وغوص فهمه يعلم أن هذه النصوص العمومية يدخلها التخصيص بالإباحة لسبب اقتضى ذلك، فتجعل المنهي عنه مأمورًا به، لقول الله تعالى: ﴿فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ [البقرة: 173] كالصلاة، فإن من شرطها الطهارة بالماء أو بالتيمم عند عدمه أو تعذر استعماله، وقد جوزوا لعادم الطهورين الصلاة على حسب حاله؛ لأن هذا هو غاية وسعه، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وللضرورة حال ويعلق بها أحكام غير أحكام الاستطاعة والاختيار.

فشيخ الإسلام أفتى هذه المرأة بفتوى تقتضيها الضرورة والحاجة في ذلك الوقت نفسه، على حسب ما أدى إليه اجتهاده.

ونحن بكلامنا لم نتجاوز حكمًا يوجب التحديد بما ذكر حتى نستوجب توجيه الملام على مخالفته، وهب أنهم وجدوا دخول وقت الرمي بالزوال استنادًا واستدلالاً بمفهوم الفعل، فمن أين يجدون انتهاءه بالغروب، وأن الليل لا يجوز فيه رمي، كما لا يصح فيه صوم؟ وعندي أنه لما كان ما بعد الزوال هو أفضل وقت يرمي فيه الحاج، تأسيًا بفعل النبي ﷺ صار الناس يتبعون الأفضلية في هذا الوقت، حيث لا ضرب ولا طرد، ولا يقال للرامي: إليك إليك. فتبع الناس بعضهم بعضًا على هذا العمل التماسًا للأفضل، فظن عامة الناس أنه فرض محتم؛ لأن الناس غالبًا يألفون ما يعرفون ويأنفون مما لا يألفون. ومن عادة الحجاج في سائر السنين أنهم يتبعون أمير الحج في سائر فعل مناسك الحج، فيرمون برميه، وسبب استمرارهم على فعله أنهم ظنوا أن الرمي في خاصة هذا الوقت واجب محتم عليهم.

وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في بيان غربة العلم، وأن الناس أعداء لما جهلوا منه، قال: وأنا أضرب لك مثلاً بالجمار بالأحجار، وأنه يكفي عن الاستنجاء بالماء على مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء، فلو فعله أحد أو أفتى بالاقتصار على الأحجار لنسبوه إلى عدم المعرفة والاستخفاف بالشريعة... انتهى.

وفي الختام، فإن الإنسان مهما كان فإنه عرضة للخطأ والنسيان، وما من الناس إلا راد ومردود عليه بحق أو بغيره؛ لأن صواب القول وصدقه وعدله غير كافل لصيانته من الرد عليه والطعن فيه، حتى ولا كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فإنه لم يسلم بكماله من الطعن في كلامه وأحكامه ﴿وَكَذَّبَ بِهِۦ قَوۡمُكَ وَهُوَ ٱلۡحَقُّۚ قُل لَّسۡتُ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ ٦٦ [الأنعام: 66] مصدقًا لما بين يديه، فما بالك بكلام من هو مثلي وأنا المقر على نفسي بالخطأ والتقصير، وإني لدى الحق أسير.

وبما أن المسلم هو من سرَّته حسناته وساءته سيئاته، فقد سرني وصول رسائل متعددة من علماء بلدان متباعدة في كلها يهنئونني بإصابة الحق والتوفيق للتنفيس على الخلق، ويشهدون بأني لم أقترف فيما قلت رأي جور ولا رواية فجور، وإنما دعوت الناس إلى عمل صالح مبرور، ونعوذ بالله أن نقول زورًا أو نغشى فجورًا.

15 صفر سنة 1376هـ.

* * *

[130] هذه الرسالة حررها فضيلته حين استدعي لمناظرة العلماء بالرياض في القول: بجواز رمي الجمار قبل الزوال، فاستصحبها معه وفرقها على عدد من أعيان العلماء الكبار. [131] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث جابر بن عبد الله. [132] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. [133] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر. [134] متفق عليه من حديث عروة بن مضرس الطائي. [135] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. [136] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [137] أخرجه أبو داود وابن خزيمة والبيهقي في الكبرى من حديث عائشة. [138] متفق عليه من حديث عائشة.