متقدم

فهرس الكتاب

 

(2) يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، واستسلمت جوارحه لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، وحج بيت الله الحرام.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي رفع ببعثته عن أمته الآصار والأغلال، فشرع الأحكام، وبين للناس الحلال والحرام، وسكت عن أشياء رحمة منه غير نسيان. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان.

أما بعد، فإن الله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة، بإرسال هذا النبي الصادق الأمين ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] وجعله رحمة لمن اتبعه وسعادة لمن تمسك بهديه، وقال: «بُعِثْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ»[74]فالدين الذي جاء به هو دين السهولة واليسر، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ [الحج: 78]، وقال: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ [البقرة: 185] وقال: ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨ [الأعلى: 8]، أي للشريعة التي تفضل غيرها بالسماحة واليسر، فمن رأفته وسماحة شريعته أنه يشق عليه كل ما يعنت أمته، وكان يقول لأصحابه: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا»[75]، ويقول: «اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»[76].

وكل من تأمل شرائع الإسلام التي جاء بها عليه الصلاة والسلام وجدها في مواردها ومصادرها تفر من مضائق الشدة والعنت والعسر إلى فضاء السهولة واليسر.

فما من شيء من العبادات تشق على الناس مشقة زائدة على المعتاد إلا كان لها بدل من التيسير حاضر عتيد، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ [النساء: 83].

فمن ذلك الصلاة التي هي آكد العبادات، لما كان من شروطها الطهارة بالماء وقد أعوز استعماله، إما لمشقة طلبه، أو لحبس الماء خوفًا على نفسه أو رفقته أو تضرر العضو العليل به، بحيث يخشى أن يزيد في مرضه أو يؤخر من برئه، قام التيمم بدله. ومثله عادم الطهورين يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه، وكذا القيام في صلاة الفرض فإنه ركن من أركان صحة الصلاة، وينوب القعود عنه عند وجود ما يمنعه، ومثله صيام رمضان، فإنه أحد أركان الإسلام، وقد قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ [البقرة: 184]، ورخص للشيخ الكبير الذي يشق عليه الصيام فوق المشقة المعتادة بأن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا. وكذا الحج، فإنه فرض في العمر مرة واحدة، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ [آل عمران: 97].

وفسر الاستطاعة بوجود الزاد والراحلة وأمن الطريق، ونص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه أو أهله ولو بأخذ خفارة من ماله مجحفة، وقيل: أو غير مجحفة، وهكذا سائر العبادات ما قدر عليه منها فعَله، وما أعجزه سقط عنه، إما سقوطًا كليًّا أو إلى بدل، وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقراء؛ لأن الشرائع منزلة على مصالح العباد في المعاش والمعاد؛ لأنها إما مصلحة يُطلب جلبها وتكثيرها، وإما مفسدة يُطلب درؤها وتقليلها، فهي دائمًا تطلب الفعل فتعلله بما فيه من نفع، أو تنهى عنه لما فيه من ضر، وهذا الطلب وإن لم يكن مستمرًّا لفظًا، فإنه ثابت حقيقة ومعنى، إذ ليست العقول بقادرة على إدراك جميع أسرار الشرائع.

ولهذا نرى العلماء تختلف أفهامهم في حكمة الشيء الواحد، فيحكي كل واحد منهم الحكمة على حسب ما أدى إليه فهمه، فيفهمون الكلام في حكمة الشيء الواحد في ثلاثة أقوال أو أربعة أو أكثر، فيمكن إدراك تلك الأقوال أو بعضها لسر الحكمة، ويمكن عجزها عن إدراكها، فإن من أسرار الشرائع ما أمكن الناس الوصول إلى معرفته، ومنها ما عجزوا عن أسرار حكمته، لكنهم مع جهلهم بها يؤمنون بكل ما جاء عن الله ورسوله إيمانًا جازمًا ليس مشروطًا بعدم معارض، وإن الله في كتابه وعلى لسان نبيه لم يخبر بما يكذبه العقل، ولم يشرع ما ينافي الميزان والعدل، قال تعالى: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ [الأنعام: 115].

ومن ذلك سائر مناسك الحج ومشاعره، مثل التجرد عن الثياب للإحرام، والطواف والاضطباع فيه والرمل والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والحلق وغير ذلك. فهذه وإن خفي على الناس أسرار حكمتها، فإنها إنما شرعت لإقامة ذكر الله وطاعته، وتوجيه جميع المسلمين في صلاتهم وطوافهم إلى قبلة بيت ربهم واجتماعهم في البلد الحرام سواء العاكف فيه والباد والذي من دخله كان آمنًا، فيتذاكرون بهداية الإسلام والقيام بشرائعه على التمام، ولما طاف عمر بن الخطاب بالكعبة وقبّل الحجر قال: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. [77]

وهكذا سائر أعمال الحج تجري على هذا المنهج كما روى الترمذي في صحيحه عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الجِمَارِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» يقول الله تعالى: ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩ [البقرة: 198-199]، ويقول: ﴿۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰۗ [البقرة: 203].

وقد حكى بعض العلماء الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة: حادي عشر، ثاني عشر، ثالث عشر، ويدل له حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة، أن أناسًا من أهل نجد جاؤوا إلى رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديًا ينادي: «الحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ»، وقال: «وَأَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» وأمر رجلاً ينادي بهن ليعرف الناس الحكم. [78]

وذكر الله المأمور به في هذه الأيام المعدودات يشمل الذكر والتكبير في أدبار الصلوات والتكبير عند نحر النسك، والتكبير والدعاء عند رمي الجمار، فهذه كلها داخلة في عموم الذكر المأمور به في الأيام المعدودات، وكان النبي ﷺ يخص الجمرة الأولى والوسطى بتطويل الوقوف عندها للدعاء والتضرع، ويقف الناس معه صفوفًا يدعون ويتضرعون، كما في صحيح البخاري عن ابن عمر، أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم فيُسهِل فيستقبل القبلة، ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله يفعل.

وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو عند الجمار بدعائه الذي يدعو به بعرفة. وفي صحيح مسلم عن نبيشة الهذلي أن النبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

وإنما خص الله الأمر بالذكر في هذه الأيام المعدودات من أجل أن الذكر هو روح الدين، وإنما شرع الرمي للتذكير به، وقد حكى بعض العلماء أنه إنما شرع الرمي حفظًا للتكبير، فمن تركه وكبّر أجزأه، رواه ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها، وإنما خص النبي ﷺ طول الوقوف عند الجمار للدعاء والتضرع حتى قيل: إنه وقف بقدر سورة البقرة. كله من أجل أن رمي الجمار ختام عمل الحج، فهو يدعو ويتضرع بقبول عمله، وكذلك أصحابه وقفوا صفوفًا يدعون ويتضرعون، فهذا المشعر الذي شرع للدعاء والتضرع وللذكر والتكبير قد انقلب إلى تزاحم وتلاكم وتدافع وخطر على الأرواح كبير، وصار الناس يذهبون إليها وهم متذمرون للمدافعة وقصد المغالبة، يؤيد بعضهم بعضًا، وصار أكثر الناس لا يباشرون الرمي بأنفسهم خوفًا على حياتهم، وإنما يستنيبون الأقوياء الجلداء في الرمي عنهم، وأكثرهم تقع جمارهم بعيدة عن الأحواض من أجل شدة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام.

ومن شرط صحة الرمي العلم بحصول الجمار في المرمى، كما نص على ذلك الفقهاء، وليس كذلك الزحام في الطواف، فإن الناس يسيرون فيه ولا يقفون، وكل المسجد الحرام مجال للطواف وليس الطواف محصورًا بوقت دون وقت، بخلاف رمي الجمار، فإن الجمع كثير وحوض المرمى صغير، وزمن الرمي قصير، وكل واحد يقف حتى يتمم رمي جماره واحدة بعد أخرى.

فهذا العمل بهذه الصفة قد أفضى بالناس إلى الحرج والضيق، لكون هذا الوقت القصير لا يسع أداء واجب الخلق الكثير.

ثم إن هذا التحديد بما بين الزوال إلى الغروب ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة ولا القياس ولا الإجماع، فلا تجوز نسبة القول به إلى الشرع أو إلى الدين، مع عدم ما يدل على صحته، وصار الحكم بالإلزام به مستلزمًا للعجز عنه، إذ هو من تكليف ما لا يستطاع، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ [البقرة: 286].

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[79] فلا يقول بالإلزام به في مثل هذا الزمان إلا من يحاول حطمة الناس وعدم رحمتهم:
إذا شئتَ أن تُعصى وإن كنت قادرًا
فَمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر

[74] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [75] أخرجه مسلم من حديث أنس. [76] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [77] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [78] أخرجه النسائي والترمذي من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. [79]متفق عليه من حديث أبي هريرة.