متقدم

فهرس الكتاب

 

القول بجواز طواف الحائض لشيخ الإسلام ابن تيمية

سئل شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية - رحمه الله - عن طواف الحائض لتكميل حجها، فأجاب بما يدل على جواز طوافها للضرورة والحاجة، ويتم بذلك حجها... في كلام له طويل ممتع موشح بالدلائل الجلية، والبراهين القطعية، أورد هذه المسألة والأجوبة عليها من ابتداء صفحة 436 إلى 456 من المجلد الثاني الطبعة القديمة من الفتاوى، وهذا ملخص كلامه على سبيل الاختصار - رحمه الله - قال:

ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ»[117]، وقال لعائشة: «اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[118]، وصح عنه أنه قال: «لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ»[119]. قال: ولم ينقل أحد عن النبي ﷺ أنه أمر الطائفين بالوضوء كما أمر المصلين بالوضوء، فنهيه الحائض عن الطواف بالبيت إما أن يكون لأجل اللبث في المسجد، لكونها منهية عن اللبث فيه وفي الطواف لبث، أو عن الدخول في المسجد مطلقًا لمرور أو لبث، وإما أن يكون لكون الطواف نفسه يحرم مع الحيض كما يحرم على الحائض الصلاة والصيام بالنص والإجماع، ومس المصحف عند عامة العلماء، وكذلك قراءة القرآن في أحد قولي العلماء.

فإن كان تحريمه لأجل المسجد لكونها منهية عن اللبث فيه لما روى أبو داود عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» ورواه ابن ماجه من حديث أم سلمة، وهذا الحديث قد تُكلِّم فيه، فإنه لم يحرم عليها عند الضرورة والحاجة، وروى مسلم في صحيحه وغيره عن عائشة قالت: قال لي رسول الله ﷺ: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ»، فقلت: إني حائض. فقال: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ».

ولهذا ذهب أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد وغيرهما إلى الفرق بين المرور واللبث جمعًا بين الأحاديث، وأباح أحمد وغيره اللبث في المسجد لمن يتوضأ، لما رواه هو وغيره عن عطاء بن يسار، قال: رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله ﷺ يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، لكونه إذا توضأ ذهبت الجنابة عن أعضاء الوضوء فلا تبقى جنابته تامة - يتوضأ كما ثبت من حديث عمر وعائشة - قال: وأما الحائض فحدثها دائم ولا يمكنها الطهارة، فهي معذورة في مكثها ونومها، فلا تمنع مما يمنع منه الجنب، مع حاجتها إلى المسجد، كما هو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، ولهذا كان أظهر قولي العلماء: أنها لا تمنع من قراءة القرآن إذا احتاجت إليه، كما هو مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد، وعلى هذا متى احتاجت إلى الفعل من المكث في المسجد والطواف أو القرآن استباحت المحظور مع قيام سبب الحظر لأجل الضرورة.

ومن المعلوم أن الصلوات هي أكبر الواجبات على الإطلاق وتجب في اليوم والليلة خمس مرات، وأجمع العلماء على اشتراط الطهارة لها، وتباح بل تجب للحاجة لعادم الطهورين الصلاة بغير وضوء ولا تيمم، والصلاة إلى غير القبلة للضرورة، وصلاة العريان عند عدم ما يستر به عورته، ونحو ذلك مما أجمع العلماء على جواز فعله للضرورة، وطواف الحائض أولى بالجواز من هذا كله. فلا ينبغي للعالم أن ينظر إلى الحدث المقتضي للحظر ولا ينظر مع ذلك إلى الحاجة الموجبة للإذن، كل ما تحرم معه الصلاة فإنها تجب معه عند الحاجة، إذا لم تمكن الصلاة إلا كذلك، وكذلك الطواف.

وذهب منصور بن المعتمر، وحماد بن سليمان فيما رواه أحمد عنهما إلى أن الطواف للمحدث غير محرم، قال عبد الله في مناسكه: حدثني أبي عن سهل بن يوسف، أنبأنا شعبة عن حماد ومنصور، قال: سألتهما عن الرجل يطوف بالبيت وهو غير متوضئ فلم يريا به بأسًا. وكذا قال بعض الحنفية: إن الطهارة ليست واجبة في الطواف، بل سنة، فعلى قول هؤلاء لا يحرم طواف الحائض والجنب، إذا اضطرا إلى ذلك، ومتى كان الجنب وكذا الحائض إذا عدما الماء صليا بالتيمم، وإذا عجزا عن التيمم صليا بلا غسل ولا تيمم، وهذا هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، فلا شك أن الحائض متى عجزت عن الطهارة، فإنه يجوز لها أن تطوف والحالة هذه، إذ الصلاة آكد في الوجوب من الطواف، وقد صلى عمرو بن العاص بأناس من الصحابة وهو جنب وعنده الماء، لكنه خاف على نفسه من استعماله من شدة البرد فتيمم، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: «ما حملك أن تصلي بأصحابك وأنت جنب؟!» قال: يا رسول الله تذكرت قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ[النساء: 29] فتيممت، فضحك النبي وأقرّه على صلاته ولم يأمره ولا من معه بالإعادة. [120]

فطواف الحائض التي لا يمكنها الطهارة والحالة هذه أولى بالجواز، وإذا كانت إنما منعت عن الطواف لأجل المسجد، فمعلوم أن إباحة ذلك للعذر أولى، كما أبيح لها قراءة القرآن للحاجة ومس المصحف للحاجة، لهذا نقول: إنها إذا اضطرت إلى الطواف، بحيث لا يمكنها الحج بدون طوافها وهي حائض ويتعذر المقام عليها إلى أن تطهر فهذا الأمر دائر بين أن تطوف مع الحيض وبين إلزامها بالمقام بمكة حتى تطهر، وهذا من الضرر الذي ينافي الشريعة. وكثير من النساء إذا لم ترجع مع من حجت معه لا يمكنها بعد ذلك الرجوع، ولو قدر أنها رجعت قبل كمال حجها، فإنه يبقى وطؤها محرمًا وهي عند أهلها، وهذا من أعظم الحرج الذي لا يوجب الله مثله، إذ هو أعظم من إيجاب حجتين، ويحتمل متى رجعت إلى الحج أن يقع بها مثل ما وقع بها من الابتلاء بالحيض.

وأما وجوب القضاء على المفسد لحجه فمن أجل تفريطه بإفساده لحجه، وهذه لم تفعل ما تلام عليه من تفريط أو إفساد. وقد تنازع العلماء في قراءة القرآن للحائض وليس في منعها من القرآن سنة أصلاً، فإن قوله: «لَا تَقْرَأِ الحَائِضُ، وَلَا الجُنُبُ شَيْئًا مِنَ القُرْآنِ»[121] حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وليس لهذا أصل عن النبي ﷺ ولا حدَّث به أحد من المعروفين بنقل السنن، وقد كانت النساء يحضن على عهد رسول الله، فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة والصيام لكان هذا مما بينه النبي لأمته وتعلمه أمهات المؤمنين عنه، وكان ذلك مما ينقلونه إلى الناس، فلما لم ينقل أحد عن النبي ﷺ في ذلك نهيًا لم يجز أن تحل حرامًا، مع العلم أنه لم ينه عن ذلك، وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه، علم أنه ليس بمحرم. وإنما منعت الحائض من الطواف إذا أمكنها أن تطوف وهي طاهر؛ لأن الطواف يشبه الصلاة من بعض الوجوه وليس كالصلاة من كل الوجوه، والحديث الذي رواه النسائي عن ابن عباس: الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، قد قيل: إنه من كلام ابن عباس، والله سبحانه إنما فرض في الحج طوافًا واحدًا ووقوفًا واحدًا، فكذلك السعي، حتى أحمد في نص الروايتين عنه لا يوجب على المتمتع إلا سعيًا واحدًا، إما قبل التعريف وإما بعده، بعد الطواف. ولهذا قال أكثر العلماء: إن العمرة لا تجب كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وهو الأظهر في الدليل، فإن الله لم يوجب إلا حج البيت ولم يوجب العمرة، وإنما أوجب إتمام الحج والعمرة على من يشرع فيهما. وهذا مما يفرق به بين طواف الحائض وصلاة الحائض، فإنها تحتاج إلى الطواف الذي فرض الله عليها مرة في العمر، وقد تكلفت السفر الطويل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، فأين حاجة هذه إلى الطواف الذي يكمل به تمام حجها، وقد تقدم القول الراجح في أن الحائض لا تمنع من قراءة القرآن لحاجتها، وحاجتها إلى هذا الطواف أعظم.

ثم إن اشتراط الطهارة من الحدث للطواف، كالطهارة للصلاة فيه نزاع والاحتجاج بقوله: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ»[122] حجة ضعيفة، فإن نهايته أن يشبه بالصلاة وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه، فمن أوجب له الطهارة فلا بد له من دليل شرعي وما أعلم ما يوجب ذلك، ثم إني تدبرت وتبين لي أن طهارة الحدث لا تشترط في الطواف ولا تجب فيه بلا ريب، فإن الأدلة الشرعية إنما تدل على عدم وجوبها فيه، وليس في الشريعة ما يدل على وجوب الطهارة الصغرى فيه، ولا نسلم أن جنس الطواف أفضل من جنس الصلاة، بل جنس الصلاة أفضل منه، وقد صحت في حالة الضرورة بدون وضوء ولا تيمم كعادم الطهورين، فكيف لا يصح طواف الحائض مع الضرورة والحالة هذه؟ فإنها إذا اضطرت إلى الطواف الذي لم يقم دليل شرعي على وجوب الطهارة فيه مطلقًا كان أولى بالجوار.

فقول النبي ﷺ: «الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ»[123]، وقوله لعائشة: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ ألا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[124] هو من جنس قوله: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»[125]. وقوله: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ»[126]، وقوله: «إِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»[127]، فإذا كان قد حرم المسجد على الحائض والجنب ورخص للحائض أن تناوله الخُمْرة من المسجد، وقال لها: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ»، وقد أُبيح المرور للجنب، وكان الصحابة يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا مع أنه لا ضرورة إليه، فإباحة الطواف للضرورة لا يتنافى تحريمه بذلك النص كإباحة الصلاة بدون وضوء ولا تيمم للضرورة وإباحة صلاة المرأة بدون خمار للضرورة. ولم تأت السنة بمنع المحدث من المسجد، وما لم يحرم على المحدث فلا يحرم على الحائض مع الضرورة بطريق الأولى والأحرى، كقراءة القرآن. فلو حرم الطواف عليها مع الحيض، فلا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة، ومن جعل حكم الطواف كحكم الصلاة فيما يحل ويحرم، فقد خالف النص والإجماع.

وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية ولا يحتج بها. ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول ﷺ وتلقته الأمة بالقبول، وبين ما قاله بعض العلماء مع تعذر الحجة على صحته، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم، والمقلد ليس معدودًا من أهل العلم. وإذا دار الأمر بين أن تطوف طواف الإفاضة مع الحيض للضرورة وبين ألا تطوف، كان أن تطوف مع الحيض أولى، فإن في اشتراط الطهارة للطواف نزاعًا معروفًا، وكثير من العلماء كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه يقولون: «إنها في حال القدرة على الطهارة إذا طافت مع الحيض أجزأها وعليها دم مع قولهم: إنها تأثم بذلك، وأهل هذا القول يقولون: إن الطهارة واجبة فيها لا شرط، والواجبات كلها تسقط بالعجز، وحينئذ فهذه المرأة المحتاجة للطواف مع الحيض أكثر ما يقال: إنه يلزمها دم، كما هو قول أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، وإلا قيل: إنه لا يلزمها دم مع الضرورة.

وقد تبين بهذا أن المضطرة إلى الطواف مع الحيض لما كان في علماء المسلمين من يفتيها بالإجزاء مع الدم ولم تكن الأمة مجمعة على أنه لا يجزئها إلا الطواف مع الطهر مطلقًا، وحينئذ فليس مع المنازع - القائل بمنعها من الطواف حتى تطهر، ولو كانت مضطرة - نص ولا قياس ولا إجماع، وقد بينا أن العلماء اختلفوا في طهارة الحدث، هل هي واجبة للطواف؟ وأن قول النفاة للوجوب أظهر، فلم تجمع الأمة على وجوب الطهارة عليها ولا على الطهارة شرط في الطواف.

وذكر أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن الميموني، قال لأحمد: من سعى وطاف طواف الواجب على غير طهارة، ثم واقع أهله؟ فقال: الناس في هذا مختلفون، وذكر قول ابن عمر وما يقوله عطاء وما يسهل فيه، ومما نقل عن عطاء في ذلك أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف أنها تتم طوافها ويصح منها، وهذا صريح من عطاء أن الطهارة مع الحيض ليست بشرط.

والحائض أحق بالعذر من الجنب، لكون الجنب يقدر على الطهارة، وهذه عاجزة عنها، فهي معذورة، كما عذرها من جوّز لها قراءة القرآن؛ لأن عذرها بالعجز والضرورة أولى من عذر الجنب بالنسيان. ومن نسي الطهارة للصلاة عليه أن يتطهر ويصلي إذا ذكر، بخلاف العاجز عن الشرط والواجب كالعاجز عن الوضوء والتيمم أو عن قراءة، أو استقبال القبلة، فإن هذا يسقط عنه كل ما عجز عنه، ولم يوجب الله على أحد ما يعجز عنه، لقول الله تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ [التغابن: 16]، ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ [البقرة: 286]، وفي الحديث: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بشيء فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[128].

وقد قال أحمد في رواية محمد بن الحكم: إذا طاف طواف الإفاضة على غير طهارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع، فإنه لا شيء عليه، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه. وبالجملة هل يشترط في الطواف شروط الصلاة؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره.

أحدهما: يشترط لقول مالك والشافعي وغيرهما.

والثاني: لا يشترط وهو قول أكثر السلف وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهذا القول هو الصواب، فإن المشترطين للطواف كشروط الصلاة ليس معهم حجة إلا قوله: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» [129]. وهذا لو ثبت عن النبي ﷺ لم يكن لهم فيه حجة لمخالفته لشؤون الصلاة. فإذا طافت الحائض مع العجز عن الطهارة، فهنا غاية ما يقال: إن عليها دمًا. والأشبه أنه لا يجب عليها الدم؛ لأن الطهر واجب تؤمر به مع القدرة لا مع العجز؛ لأن الدم إنما يجب بترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار، وهي لم تترك مأمورًا ولم تفعل محظورًا في هذه الحال بالاختيار، وإنما هي مغلوبة على أمرها لا تستطيع رفع الحدث الحيض عنها، فمنعها من الطواف هو من جنس منعها من اللبث في المسجد والاعتكاف فيه وقراءة القرآن ومس المصحف، وهذه كلها يجوز للحائض فعلها بلا دم عند الحاجة إليها.

فإن قيل: لو كان طوافها مع الحيض ممكنًا لأمرت بطواف القدوم وطواف الوداع، والنبيﷺ أسقط طواف الوداع عن الحائض وأمر عائشة لما كانت متمتعة وقد حاضت أن تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج؛ فلعله أنه لا يمكنها الطواف. فالجواب: أن الطواف مع الحيض محظور، إما لحرمة المسجد أو للطواف أو لهما، والمحظورات لا تباح إلا في حال الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف الوداع، ولا إلى طواف القدوم؛ لأن طواف الوداع ساقط عن الحائض بالنص وطواف القدوم مستحب وليس بواجب وليست مضطرة إليه، ولو قدم مكة وقد ضاق الوقت فبدأ بالوقوف بعرفة ولم يطف للقدوم صح حجه بخلاف طواف الفرض، فإنها مضطرة إليه ولا يتم حجها إلا به، والحاصل أن القول بأن هذه المرأة العاجزة عن الطهر ترجع محرمة، أو تكون كالمحصر أو يسقط عنها طواف الفرض أو الحج كله، أو تلزم بالتخلف عن رفقتها والجلوس بمكة حتى تطهر وتطوف، كل هذه الأقوال مخالفة لأصول الشرع، مع أنني لم أعلم إمامًا من الأئمة صرح بشيء منها في هذه الصورة، وكان في زمنهم يمكنها أن تطوف بعدما تطهر، بحيث إن الأمراء يلزمون الأجراء أن يحتبسوا حتى تطهر الحُيَّض ويطفن.

ولهذا ألزم الإمام مالك وغيره المُكاريَ أن يحتبس معها حتى تطهر وتطوف، ثم إن أصحابه قالوا: لا يجب على مُكاريها في هذه الأزمان أن يحتبس معها لما يلحقه في ذلك من الضرر، فعلم أن أجوبة الأئمة بكون الطهارة شرطًا أو واجبًا في حقها، كان مع القدرة على أن تطوف طاهرًا، لا مع العجز عن ذلك، فلو قدر تحريم الطواف عليها مع الحيض في حالة الاختيار، فإنه لا يلزم تحريم ذلك مع الضرورة، وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة للنص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقدر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها، ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية ولا تنازع العلماء فيها، فإنه لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول وبين ما قاله علماء مذهبه، مع تعذر الحجة على صحته، ومن كانت هذه صفته، فإنه يعد من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم مثل المحدث عن غيره.

انتهى كلامه مختصرًا، رحمه الله وعفا عنه، وأسكنه فسيح جنته، ونفعنا وسائر المسلمين بعلومه.

ولابن القيم - رحمه الله - في الإعلام نحو من هذا الكلام في جواز طواف الحائض وكونه يتم بذلك حجها.

* * *

[117] أخرجه الترمذي وأحمد من حديث عائشة. [118] متفق عليه من حديث عائشة. [119] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [120]أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن العاص. [121] أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر. وقال الألباني: منكر. [122] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [123] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [124] متفق عليه من حديث عائشة. [125] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [126] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [127] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [128] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [129] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عباس.