الحكم في لحوم الهدايا التي تذبح بمنى في موسم الحج
الحمد لله ونستعين بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما بعد:
فإنني رأيت في جريدة الأهرام أقوالاً متعددة صادرة من علماء بلدان متباعدة كلها تحوم حول موضوع دماء المناسك والهدايا التي تذبح بمنى وقت موسم الحج، وينددون بأن تركها بعضها فوق بعض أنه إضاعة للمال، وينددون كما يُرددون بأن إهمالها بهذا الوضع أنه من مناهي الشرع، ويُنحون بالملام على تركها بهذه الصفة، وينقل بعضهم عن بعض صورة البشاعة والشناعة، وقد قلد بعضهم بعضًا في الحملة عليها، وهم مجتهدون ويغفر الله لنا ولهم.
وإن المشكلة كل المشكلة فيها هو شدة الزحام حيث يطأ بعضهم بعضًا بالأقدام، والذي لم يُعهد له نظير في شيء من الأزمان أو البلدان، حتى لو كان بين الرجل وبين ذبيحته عشرة أقدام لما استطاع الوصول إليها بالسهولة، ولا ما تمكن من حملها إلى محله، والحجّاج في يوم العيد هم أجوع ما يكونون للحم لعدم توفره لديهم وعدم قدرتهم على الوصول إليه وعلى حمله إلى منازلهم؛ لهذا يشتد شوقهم إلى أكل اللحم في يوم العيد، وينظرون إليه نظر الحِدأة، ولا يُسعَد بالتنعم بأكله في خاصة هذا اليوم إلا الجُلداء الأقوياء الذين يشقون الصفوف الزحام ويخوضون الدماء بالأقدام، فينقلون منه ما يشتهون أكلاً وادخارًا وبيعًا، غير أن الذبح والسلخ والتنظيف ليس من الشيء الهيّن، ولا كل أحد يستطيعه، فيأخذ أحدهم في عملية الذبح والسلخ والتنظيف والتقطيع قدر ساعة كاملة، فما بالك بالملايين من ذبح الإبل والبقر والغنم إذ تنظيمها في مثل هذا المكان الضيق والوقت القصير مُشق إلى حد النهاية، فهم يعجزون كل العجز عن توصيل هذه اللحوم إلى الحجاج في منى وإلى الفقراء من أهل مكة، ولا شك أن المطالبة بذبحها وسلخها وتنظيفها أنه أشق، إذ هو من تكليف ما لا يُستطاع، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولو فرضنا أن الحكومة عملت عملها في تنظيم هذه اللحوم لتوزيعها فلا شك أن فقراء الحرم هم أحق بها وأهلها، إذ هم المخصوصون بها في كتاب الله وسنة رسوله فلا معنى لعدولها عنهم.
ولو وزِّعت هذه اللحوم المركومة لما وَسِع الشخص الواحد من الحجاج مثقال بيضة من اللحم، وقد أدخل علماء السنة الذبح في عقائدهم، فقرّروا أن من الشرك بالله الذبح لغير الله؛ لقوله سبحانه: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2]، وقوله: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ﴾ [الأنعام: 162-163]، وعن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ». رواه مسلم.
إن الأمم في قديم الزمان كانوا يقدمون قرابين من الإبل ومن البقر والغنم وغير ذلك من الشيء الكثير، فمتى قُبلت منهم قرابينهم نزلت نار من السماء فأحرقتها، وهذا معنى قوله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيۡنَآ أَلَّا نُؤۡمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأۡتِيَنَا بِقُرۡبَانٖ تَأۡكُلُهُ ٱلنَّارُۗ﴾ [آل عمران: 183]، لقد استفحل أمر ذبح القرابين عند العرب وعلى قبور عُظمائهم وهي قرابين شركية، يقول بعضهم:
وإذا مررت بقبره فاعقر به
كوم[110] الهجان وكل قرن سابح
فحرم الإسلام سائر الذبح لغير الله كالذبح للقبر والذبح للزار فكلها من الذبح لغير الله.
ولما قدم وفد خولان على النبي ﷺ مسلمين فقال لهم رسول الله: «ما فعل عم أنس» وكان لهم صنم يعبدونه يسمونه (عم أنس). فقالوا: قد أبدلنا الله به ما جئتنا به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكين به ولو قدمنا عليه لهدمناه فإننا منه في غرور وفتنة. فقال رسول الله: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» فقالوا: لقد أسنتنا - يعني أجدَبنا سنة - حتى كنا نأكل الرمة فجمعنا ما قدرنا عليه حتى اشترينا مائة ثور ونحرناها كلها قربانًا لعم أنس وتركنا السباع تردها ونحن والله أحوج إليها من السباع، ولقد رأينا العشب يواري محازم الرجال ويقول قائلنا: أنعم علينا (عم أنس)، وهذا من فنون عملهم وتوسعهم في شركهم، حكاه العلامة ابن القيم في كتاب الوفود من زاد المعاد ص50 الجزء الثالث.
فأبطل الإسلام سائر الذبائح الشركية وحرّم أكلها على اختلاف أنواعها، وأثبت الذبائح الشرعية كنُسك التمتع والقران، وكذا ما أُهدي للحرم من إبل وبقر وغنم، وكجزاء الصيد ودم الإحصار، وما وجب بترك واجب أو فعل محظور، ومثله الأضحية والعقيقة والمنذور ذبحه لله، فكل هذه من الذبائح الشرعية التي أثبتها الإسلام ونزل فيها القرآن، وكان النبي ﷺ يبعث جملة كثيرة من الإبل إلى البيت حتى قدرت بمائة ناقة، وكان هديه فيها أن يعلق النعل على رقابها ويشق طرف سنامها حتى يسيل منه الدم، فيعرف الناس أنها هَدي فيحترمونه. تقول عائشة: فتلت هَدي قلائد النبي ﷺ فلم يمتنع من شيء كان مباحًا له. ([111]) وكان يأمر سائق الهدي متى عطب شيء منه بأن يذبحه ولا يأكل هو ولا رفقته شيئًا منه، فلو عطب الهدي كله، لذبحه، ولم يأكل هو ولا رفقته شيئًا منه وترك السباع تأكله، لكونه قد بلغ الهدي محله، فبلغت النية مبلغ العمل فيه، قالت هذا الكلام في معارضتها لما رواه مسلم عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلَ هِلَالُ ذِي الْحِجَّةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ، وَأَظْفَارِهِ شَيْئًا»، وقالت عائشة: إنما قال هذا فيمن أحرموا بالحج، أما الأضحية والأمر بكف اليد عن أخذ الشعر والظفر فلم يثبت عنه شيء من ذلك، تعني أن الحديث انقلبَ على أم سلمة، وعائشة هي أعلم بالحديث من أم سلمة.
وقد نحر الرسول وأصحابه هديهم بالحديبية حين صدهم المشركون عن إتمام عُمرته، وحيث جرى عقد الصلح بينه وبين سهيل بن عمرو نيابة عن قريش، فنحر هديه وحلق رأسه ولبس ثيابه ورجع إلى بلده المدينة، وترك الهدي مذبوحًا يأكله من رغب فيه، والحديبية تقع خارج الحرم، حتى إنهم إذا أرادوا أن يصلوا فريضة من الصلاة دخلوا في الحرم.
وأهدى عام حجّة الوداع مائة بَدنة، نحر منها ثلاثًا وستين بيده عدد عمره الشريف، وهي صواف على قوائمها الثلاثة معقولة يدها اليسرى، وكان يطعنها بالحربة بين أصل العنق والصدر، ووكّل عليًّا فنحر ما بقي منها، ومن جملتها بعير في أنفه بُرّة من ذهب لأبي جهل. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ﴾ - أي قائمة على ثلاث قوائم - ﴿...فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٣٦ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ﴾ [الحج: 36-37]. فشرع الله سبحانه هذا الذبح للحيوان تشريفًا وتكريمًا ليوم عيد الحج الأكبر وأيام مِنى حتى تكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين وما يقربونه فيها لآلهتهم من القرابين، كما قال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ﴾ [الحج: 34]. ثم ذكر سبحانه أن تعظيم هذا الذبح في مثل هذا اليوم وفي أيام التشريق أنه من تعظيم حرمات الله، ومن الدليل على إيمان القلب وانقياد الجسم لطاعة الله عز وجل. فقال سبحانه: ﴿...وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ٣٢ لَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ٣٣﴾ [الحج: 32]. وفسّر ابن عباس تعظيم الشعائر باستسمان الهدي واستحسانه. وقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} أمرٌ منه سبحانه بإباحة الأكل من هدي المتعة والقران، والأمر للإباحة، والقانع هو: السائل، والمعتر هو: الذي يتعرض لك لتراه فلا تنساه من لحم الهدي. وفي هذه الآية الرد الصريح على من زعم عدم التوقيت لمكان ذبح مناسك الحج وكونه محجوجًا بالقرآن في قوله سبحانه: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ ٣٣﴾ ثم وضّحت السنة ذلك فيما رواه أبو داود وابن ماجه أن النبي ﷺ قال: «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» فلم يُصب من زعم عدم التوقيت لمكان الذبح.
فالقول بإخراج الهدي الواجب كهدي المتعة والقِران عن محله بمكة إلى البلدان البعيدة لإنقاذ أهلها من الجوع - من الخطأ الواضح الذي لا مبرّر له إلا التقليد.
وإن الناس بمكة وبمنى وقت الحج أكثر من أن يُحصوا، وكلهم في حاجة إلى اللحم، وقد لا يستطيع أكثرهم الحصول عليه من أجل شدة الزحام الذي يزداد عامًا بعد عام لعوامل لم تكن معروفة في السنين السابقة، منها، فتح مشارق الأرض ومغاربها بالآلات الحديثة من الطائرات والسيارات والسفن وسائر الوسائل التي قضت بقصر المسافة وتسهيل السفر، حتى صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة وكأن عواصمها بيوت متقاربة، وقد أشارت المعجزة إلى الإخبار بهذا الشيء قبل وقوعه كما روى ابن أبي الدنيا عن مكحول مرسلاً أن رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ، وَتَقَارُبُ أَسْوَاقٍ»، وفي البخاري: «من أشراطها تقارب الزمان» وليس من الممكن أن يفسر تقارب الأسواق بانضمام الأرض بعضها إلى بعض، ولكن بالآلات البرية والبَحرية والهوائية وسائر الوسائل الناقلة للذوات والأصوات، والتي كان الناس قبلها يُقاسون الشدائد في الأسفار، يسيرون مدة طويلة من الزمان ولا يبلغون منتهى قصدهم من هذه الدار، أضف إليه ما يعرض لهم من المهالك والأخطار، وما يُُلاقونه من المخاوف والأوجال، لكون الحاج في زمن لم يبعد في التاريخ كان هدفًا للأغراض ونهبًا للأعراب، ويُعدون الاعتداء عليهم بالنهب والسلب من أعظم وسائل الكسب، ولأجله يكون الحجاج بجملتهم قليلين، ولا يَحج في الغالب منهم إلا من كان قريبًا من مكة، أما أهل البلدان البعيدة فلا يحج منهم إلا النادر لبُعد الشقة وشدة المشقة ووحشة الطريق ونصب وسائل التعويق، فهم لا يستطيعون لوصوله حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
كيف الوصول إلى سُعاد ودونها
قُللُ الجبال وَدونهن حتُوف
الرجل حافية وما لي مركب
والكف صفر والطريق مخوف
أما الآن وفي هذا الزمان فقد قصرت المسافات وسهلت المواصلات ودُكت عقبات التعويق وقُطع دابر قطاع الطريق، وزد عليه حصول الأمن المُستتب في أنحاء الحرم وسائر السبل المفضية إليه، حتى إن الناس فيه آمن منهم في أوطانهم، فمن أجله وفد الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون وهم من كل حدب ينسلون وفي كل عام يزيدون. يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ ٢٨﴾ [الحج: 27-28]. والأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، ومنها يوم عرفة الذي هو أفضل أيام الدنيا، كما أن الأيام المعدودات المذكورة في قوله سبحانه: ﴿۞وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ﴾ [البقرة: 203]. يعني بالأيام المعدودات أيام التشريق.
وحكى القرطبي عن الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام مِنى وهي أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى الثالث عشر منه.
ويؤيده حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم قال: إن أناسًا من أهل نجد أتوا رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديًا ينادي «الحج عرفة، من جاء ليلة جَمْع - أي: مزدلفة - قبل طلوع الفجر فقد أدرك، وأيام منى ثلاثة أيام: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ﴾ [البقرة: 203]. وأردف رجلاً ينادي بهن بهذه الكلمات ليعرف الناس الحكم. وهو أن من أدرك عرفة ولو في الليلة التي ينفر بها الحاج إلى المزدلفة للمبيت فيها وهي الليلة العاشرة من ذي الحجة فقد أدرك الحج، وأن أيام مِنى ثلاثة وهي التي يرمون فيها الجمار وينحرون فيها هديهم وضحاياهم، فمن فعل ذلك في اليومين الأولين منها جاز له. ومن تأخر إلى الثالث جاز له. بل هو الأفضل لأنه الأصل وفيه زيادة في العبادة. فالحديث مفسر للأيام المعدودات وعليه العمل عند أهل العلم كما قال الترمذي في جامعه. وبيّنت السنة أيضًا أن ذكر الله تعالى في هذه الأيام هو التكبير أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين وعند رمي الجمار وغير ذلك من الأعمال.
فمن أجله اشتد الزحام وشق على الخاص والعام، وقد بذلت حكومة المملكة العربيّة السعودية حرسها الله جميع وسائل التسهيل والتنظيف ووسائل الصحة ومحاربة الأوبئة نسأل الله أن يوفقهم لسعادة الدنيا والآخرة.
والحاصل أن هذه اللحوم بمنى والتي يستبشع الناس رؤيتها ويتمنون نقلها إلى البلدان الضعيفة أهلها؛ أنها لو قُسمت هذه اللحوم بين الحجاج والمقيمين بمكة لما وسع الشخص الواحد قدر بيضة منها، وأن الحكومة وغير الحكومة عاجزون عن إيصالها إلى الفقراء الموجودين بمنى وبمكة، فما بالك بتكليفهم بتنظيمها في المعلبات ثم إرسالها إلى الخارج، إن هذه الدعوى تستحق أن لا يستجاب لها، ولو فرضنا أنه لا يأكلها إلا الكلاب والسباع فإن في كل كبد رطبة أجر كما روى البخاري في صحيحه في قصة المرأة البغي حيث رأت كلبًا يلهث عطشًا فنزعت له موقها فسقته فشكر الله لها ذلك فغفر لها. وفي رواية: قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»[112]. فالهدي متى بلغ محله وسمى الله صاحبه عليه ثم نحر فإنه يُجزئ سواء أكل أو تُرك، وقد روى ثابت بن ضحاك أن رجلاً سأل النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة - وهي موضع معروف - فقال رسول الله ﷺ: «أَفِيْهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟» قال: لا. قال: «هَلْ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟» قال: لا. قال: «فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِي مَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». ولم يستفصل رسول الله عن هذه الإبل وهل يوجد فقراء يأكلونها أو لا يوجد، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه قال: انحرها سواء أكلها الأوادم أو بهائم الوحوش.
وسئل أحد العلماء عن رجل نحر هديه وتركه ولم ير أحدًا أكل منه، فأجاب بأنه يضمنه بمثله أن يذبح بدله، وهذا الجواب واقع غير موقعه الصحيح لأنه بمثابة من يوجب على كل شخص حراسة هديه في تلك البقعة المخاضة من الدماء إلى أن يجد من يأكله، وهو من تكليف ما لا يطاق، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فالأكل مباح وليس بواجب.
ثم نرجع إلى بقية الكلام في الدماء الواجبة فجزاء حلق الرأس للمحرم يفعل في أي مكان في الحرم وخارجه، كما نحر رسول الله ﷺ دم الإحصار في الحديبية، أما جزاء الصيد فإنه وقت نزول القرآن كان الصيد يمشي بين الإبل بحيث تناله أيدي الناس ورماحهم كما قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلصَّيۡدِ تَنَالُهُۥٓ أَيۡدِيكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ﴾ [المائدة: 94]. وفي هذا الزمان قد انقطع الصيد فلا نطيل الكلام في موضوع جزاء ما هو معدوم، ومثله الهدي الذي يساق إلى الحرم.
يبقى الذبح المستحب كذبح الأضحية، فالعلماء لا يستحبون الجمع بين ذبح المتعة والقران وذبح الأضحية، بل يكفي ذبح المتعة والقران عن ذبح الأضحية، كما في البخاري أن النبي ﷺ ضحى عن نسائه ببقر. يعني بذلك نسك الحج، فالهدية التي تُهدى إلى الحرم قد انتهى عمل الناس بها في هذا الزمان لانتهاء من يعمل بها مع كونها سنة مشهورة معمولاً بها في صدر الإسلام ولا تزال باقية. أما جزاء اللبس والطيب وحلق الرأس فإنه يفعل في أي مكان في داخل الحرم وخارجه، ومثله المحُصَر. وقد نحر رسول الله ﷺ هديه بالحديبية وحلق رأسه ولبس ثيابه. ثم رجع إلى المدينة، ولا نطيل الكلام في موضوعه وهو واضح مشهور.
وقد قال العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين في شأن ذبح القرابين من الهدايا ودماء النسك والأضاحي: ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلا تعظيم شعائر الله وإظهارها وعلم الناس بأن هذه قرابين الله عز وجل تُساق إلى بيته تذبح له ويتقرب بها إليه عند بيته كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلون لها؛ فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم لله وحده. وأن يظهروا شعائر توحيده غاية الإظهار ليعلو دينه على كل دين، فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بها ولله الحمد.
وقد وُجد من العلماء من يقول بجواز ذبح النُّسك كدم المتعة والقران في اليوم السابع والثامن والتاسع من عشر ذي الحجة أخذًا منه برواية عن الإمام الشافعي بناءً على أن دم المتعة والقران هو دم جُبران.
والنبي ﷺ خطب الناس يوم عيد النحر فقال: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» فسكتوا، فقال: «أَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ؟»[113]؛ لأن كل الناس من الحجاج والمقيمين وسائر أهل الأمصار كلهم يذبحون لله في هذا اليوم وفي سائر أيام التشريق فُسمي يوم العيد بيوم النحر، واليوم الأول من أيام التشريق يسمى يوم القر، واليوم الثاني يسمى يوم النفر، واليوم الثالث يسمى يوم الرؤوس، ثم ينتهي الذبح بغروب الشمس. وحقق العلامة ابن القيم في زاد المعاد أن ذبح النُّسك في المتعة والقران أنه دم نسك وليس بدم جبران، لكون الحج والعمرة في حق المتمتع والقارن تامين بدون نقص.
والحق أن من قال بجواز ذبح النسك في أيام السابع والثامن والتاسع من ذي الحجة فإنه بمثابة من قال بجواز ذبح الأضحية قبل عيد النحر، والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد فقال: «إِنَّا نُرِيْدُ أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ»[114]. ولما طاف النبي ﷺ بالبيت ومعه أصحابه وسعوا بين الصفا والمروة فقال لهم: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا؟ فقال: «بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[115] فحل الناس كلهم وقصروا رؤوسهم ولبسوا ثيابهم ما عدا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي كأبي بكر وعلي، فقد بقوا على إحرامهم ولم يحلوا منه إلا يوم العيد بعدما رموا جمارهم ونحروا هديهم؛ لقوله سبحانه: ﴿وَلَا تَحۡلِقُواْ رُءُوسَكُمۡ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ ٱلۡهَدۡيُ مَحِلَّهُۥ﴾ [البقرة: 196] ومحله المكاني هو منى ومكة، ومحله الزماني هو يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة.
وأما تشنيعهم بإحراق اللحوم بمنى أو بدفنها، فإن الخطب فيها يسير إذ هي من الأمر الحقير فلا تحتمل النكير، إذ كل شيء يضر ولا ينفع فالنار أولى به. والقصد من هذا التحريق أو الدفن للحم هو اتقاء تعفن اللحم الذي ينشأ عنه الوباء، وقد حرّق الصحابة المصاحف المخالفة لمصحف عثمان صيانة لمصحف الإمام عن الزيادة فيه أو النقصان وهي أعلى وأجل من تحريق بقايا هذه اللحمان، ولأن مكة كسائر بلاد الحجاز معروفة بشدة الحر، ويسرع تعفن اللحم إليها في أول يوم تذبح فيه الدابة، وهو لحم وما لجرح بميت إيلام، ثم إن نحر مناسك الحج كدم المتعة والقران هي من أعمال التحلل من الحج كالوقوف بمزدلفة ورمي الجمار وحلق الرأس وطواف الإفاضة كلها تفعل في الحرم في خاصة يوم العيد وأيام التشريق، فلو أخرها عن هذه الأيام لم تصح، أو أخرج نحر النسك إلى بلدة فإنما هي شاة لحم قدمهما لأهله وليست من النسك في شيء.
أما إخراج لحوم الهدايا والنسك والهدايا إلى البلدان الضعيفة أهلها فإنه جائز، فقد رأينا الناس في السنين السالفة ينشرون اللحم لتجفيفه في منى ثم يحملونه معهم إلى بلدهم بدون نكير، وإنما سُميت أيام التشريق لكون الناس يشرقون أي يجففون فيها اللحم، وقد ضاقت الأرض على الناس اليوم بما رحبت فلم يتمكنوا من عمل كانوا يفعلونه سابقًا. والنبي ﷺ كان قد نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاثة أيام من أجل الدافة التي دفّت من فقراء اليمن، ثم إنه رخص لهم في ادخارها فقال: «كُلُوا وَادَّخِرُوا»[116]. لهذا كان الصحابة يحملون معهم قديد اللحم إلى المدينة، ولا شك أن إرسال هذه اللحوم إلى البلدان الضعيفة خير من إحراقها أو دفنها، وسيأتي الزمان الذي تتمكن فيه الحكومة أو إحدى الشركات من تنظيم هذه اللحوم للانتفاع بها والتمتع بأكلها وما ذلك على الله بعزيز.
ولسنا في رسالتنا هذه نحاول تفتير الهمم ولا حلَّ عزائم الأمم، وإنما نتكلم على الأمر الواقع الذي نشاهده بالعيان، وكونه من الصعب بمكان لقوة معارضة المانع للمقتضى، وقد تَسنَح الفرصة للحكومة أو لإحدى الشركات في تنظيم هذا العمل على حَسب ما يرضي الناس، ثم إرساله إلى المستحقين من المستضعفين في الخارج، وما ذلك على الله بعزيز، إذ هذا أفضل من دَفنه وإحراقه الذي هو ضياع المال وقد قيل:
ولم يُحفظ مُضاع المجد شيء
من الأشياء كالمال المُضاع
وقد رأيت في إحدى المجلات بالمملكة العربية السعودية بيان إحصاء ما يذبح في موسم الحج فأفاد قائلاً: إنه يتم ذبح سبعمائة ألف رأس من الإبل والبقر والغنم في عيد يوم النحر، وفي اليوم الثاني مائتي ألف رأس، وفي اليوم الثالث مائة ألف رأس من الحيوان، ولهذا كانت المشكلة في تراكم هذه الأعداد الضخمة في هذا الوقت القصير، والناس لا يتمكنون من الذبح والسلخ والتنظيف إلا خلال أربع ساعات تقريبًا، ثم يفرون ويهربون من الشمس إلى الظل وأكثر العمال مشغولون بالعيد في بيوتهم.
وأفاد صاحب المقالة بأن هذا الحيوان يفسد أي يسرع إليه التعفن في مدة ساعتين من الذبح كما هي تحت ظروف درجات الحرارة العالية، وكذلك لا يوجد في العالم أجمع مصنع أو مجموعة مصانع تعمل لمدة ثلاث ساعات فقط أو ست ساعات لتصنيع سبعمائة ألف من الحيوان ثم يقف بقية العمل. انتهى.
وهذا هو السبب الذي قلنا: إن تنظيم هذه اللحوم في هذه الأيام القصيرة وفي خاصة مِنى المزحومة بالخيام وبالحبال وبالأوتاد حتى لا يوجد بقعة خالية لنشر اللحم بها. لهذا قلنا: إن تنظيم اللحم متعذر فهو من تكليف ما لا يستطاع.
إذا شئت أن تُعصى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
قلنا هذا إيضاحًا للعذل وإثبات واسع العذر مما قد يرجف به المرجفون، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
[110] يعني بالكوم: السمان من الإبل، والقرن السابح: الحصان. [111] ) أخرجه النسائي من حديث عائشة بلفظ مقارب، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين. [112] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [113] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [114] أخرجه ابن حبان من حديث البراء بن عازب. [115] أخرجه مسلم من حديث جابر. [116] أخرجه النسائي وأحمد من حديث عائشة.