اتفاق أئمة المذاهب على القول بالرمي أيام التشريق بعد الزوال
إن في القرن الثاني من خلافة بني العباس، عند ابتداء تدوين العلم والحديث والفقه، قرر الفقهاء في كتبهم تحديد الرمي في أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب اجتهادًا منهم في ذلك، وأخذ بعضهم ينقل عن بعض القول به والحكم بموجبه، حتى انتشر في كتب الأصحاب من سائر المذاهب، وحتى صار عند كثير من الناس بمثابة الأمر الواجب، ودليلهم في ذلك ما روى البخاري عن جابر قال: رمى النبي ﷺ يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس. وعن ابن عمر وعائشة بمعناه، كلها أحاديث صحيحة، لكنها ليست بصريحة في الدلالة على التحديد بما ذكروا.
لهذا ظن من ظن أن هذا حكم عام لازم للناس في جميع الأحوال والأزمان، وأنه لو رمى قبل الزوال أو بالليل لم يجزئه.
وخفي عليهم أن هذا التحديد جرى على حسب الاجتهاد من الفقهاء، يؤجرون على اجتهادهم فيه ولا يجب أن يتابعوا عليه، إذ ليس بلازم أن يقبل ما يقوله الفقيه بدون دليل يؤيده، ولا قياس يعضده، لكون التحديد بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، لاسيما وليس له أصل يرد إليه، ولا نظر يقاس عليه، ولو فرض أنهم وجدوا دليل ابتدائه بالزوال، استنادًا واستدلالاً بفعل رسول الله ﷺ وأصحابه، لن يجدوا دليل انتهائه بالغروب؛ لأنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد والتفاسير لم نجد عن النبي ﷺ حديثًا صحيحًا ولا حسنًا ولا ضعيفًا، يأمر فيه بتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب حتى نلتزم العمل به طاعة لله ورسوله، ومع عدمه فإنه لا يجوز لنا أن نسمي ما قبل الزوال وقت نهي بدون أن ينهى عنه رسول الله ﷺ.
وغاية الأمر أنه مسكوت عنه رحمة منه بالناس، كما في الحديث: أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ، فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا»[99]. والنبي ﷺ رمى الجمرة يوم العيد قبل الزوال، ثم رمى بقية أيام التشريق بعد الزوال، ففعْلُه في هذا وهذا هو مشروع منه بسعة وقته لأمته، تأجل العمل بالرمي به إلى وقت الحاجة إليه، فمن قال باختصاصه قبل الزوال بيوم العيد دون أيام التشريق استدلالاً واستنادًا منه إلى فعل النبي ﷺ لزمه أن يقول بوجوب طواف الإفاضة يوم العيد، كما فعل رسول الله ﷺ، ولزمه أن يقول بوجوب الحلق يوم العيد ضحى، ووجوب النحر يوم العيد ضحى، كما فعل رسول الله ولم يقل بذلك أحد، بل جعله العلماء موسعًا يفعل في أي ساعة من أيام التشريق ليلاً ونهارًا، وكذلك الرمي إذ هو نظيرها في الحكم والوجوب، إذ ليس عندنا أن رميها فيما بين الزوال إلى الغروب كان على المؤمنين كتابًا موقوتًا، كيف والنبي ﷺ خطب الناس يوم العيد وخطبهم في أوسط أيام التشريق، وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»[100]. وهذا النص قاطع للنزاع ودافع للخلاف إلى مواقع الإجماع.
وأما اختياره لما بعد الزوال للرمي في أيام التشريق، فقد ذكرنا سببه، وأنه أراد أن لا يحرج أمته، بل يخرج بهم مخرجًا واحدًا لرمي الجمار ولصلاة الظهر في مسجد الخَيْف، لكون حجه صادف شدة الحر، على أن هذا فعْل، والفعل لا يقتضي تحديد المفعول فيه بمجرده، لكون الأفعال الصادرة من رسول الله ﷺ موقوفة على دلائلها، فما كان منها للوجوب صير إليه أو للاستحباب صير إليه أو للإباحة صير إليه.
ثم إن القائلين بوجوب الرمي بعد الزوال، وأنه لو رمى قبل الزوال فعليه دم؛ استدلالاً بحديث جابر أن النبي ﷺ رمى جمرة العقبة يوم العيد ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس[101]. فإنهم يخالفون هذا الحديث نفسه، حيث يرمون جمرة العقبة بالليل وهم أصحاء أقوياء، عملاً بظاهر المذهب من أنه يجوز رميها بعد نصف الليل، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك إلى أنه لا يجوز رميها بالليل، ولا يعتد به؛ لما روى أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: أرسلنا رسول الله ﷺ أغيلمة بني عبد المطلب على حُمُراتٍ لنا من جمع بليل، فجعل يلطح على أفخاذنا ويقول: «أَيْ بَنِيَّ، لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» قال الترمذي: حديث صحيح، وهذا النص يقتضي المنع لكون الرمي لجمرة العقبة يعتبر من عمل يوم العيد أشبه النحر والحلق، ولأنه عمل يفعل قبل التحلل من الحج، فناسب الاحتياط فيه، ولهذا خرج النهي مخرج الزجر عنه، وإنما رخص للنساء في الرمي بالليل من أجل ضعفهن عن مزاحمة الناس.
قال العلامة ابن القيم في تهذيب السنن: إن حديث ابن عباس هو أصح من حديث عائشة، قالت: أرسل النبي ﷺ بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت[102]، لأن ابن عباس من جملة المدفوعين وقد جرى الحديث على يده، فهو أعرف الناس به، وحديث أم سلمة فيه اضطراب، ثم على تقدير فرض صحته، فإن الجمع بين الحديثين ممكن، وإن وقت الرمي يدخل بطلوع الشمس في حق من لا عذر له من الصبيان والرجال، أما النساء فإنه يجوز لهن الرمي قبل طلوع الشمس للخوف عليهن من زحمة الناس.. انتهى.
ويدل له ما في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر، أنها دفعت ليلة جمع من مزدلفة بعدما غاب القمر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم رجعت فصلت الصبح وقالت: إن رسول الله أذن للظُّعُن[103]. والمقصود أن هؤلاء الذين يدفعون من مزدلفة بالليل ويرمون جمرة العقبة بالليل وهم أصحاء أقوياء قد خالفوا في سُنَّتين صحيحتين من سنن الحج:
إحداهما: دفعهم بالليل وهو خلاف عمل رسول الله ﷺ وعمل خلفائه وأصحابه، كما أنه خلاف نص القرآن في قوله: ﴿لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ١٩٨ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٩﴾ [البقرة: 198-199]، والناس هم الرسول وأصحابه، وإنما أفاضوا من مزدلفة بعدما صلوا الصبح بغَلَس، ثم وقفوا يذكرون الله ويستغفرونه ويدعونه، ثم دفعوا إلى منى بعدما أسفروا جدًّا.
والمخالفة الثانية: رميهم جمرة العقبة بالليل، وقد نهى رسول الله ﷺ عن ذلك بصيغة الزجر، وقال: «لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»[104].
والمخالفة الثالثة: طوافهم للإفاضة الذي هو ركن الحج بالليل من ليلة العيد، وإنما طاف رسول الله وأصحابه ضحى يوم العيد، فتساهلوا فيما ينبغي الاحتياط فيه وشددوا فيما ينبغي التساهل فيه، فإن رمي أيام التشريق يقع بعد التحلل الثاني من عمل الحج فناسب التسهيل فيه وعدم التشديد.
فبما أنه ثبت عن رسول الله ﷺ أنه نحر يوم العيد ضحى، وحلق يوم العيد ضحى، وطاف طواف الإفاضة يوم العيد ضحى، وسكت عن التحديد فجعله العلماء موسعًا يُفعل في أي ساعة من أيام التشريق، فكذلك الرمي، ويدل لذلك ما روى البخاري، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر عن وبرة قال: سألت ابن عمر: متى أرمي الجمار؟ فقال: إذا رمى إمامك فارمه. فأعدتُ عليه المسألة، فقال: كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا. فهذا ابن عمر الذي هو أحرص الناس على اتباع السنة قد أحال هذا السائل على اتباع إمامه فيه عند أول سؤاله، لعلمه بسعة وقته، ولو كان يرى أنه محدد بالزوال كوقت الظهر لما وسعه كتمانه؛ لأن العلم أمانة، ولأنه لو سأله سائل فقال: متى أصلي الفجر ليلة المزدلفة؟ لم يجز أن يقول: إذا صلى إمامك فصلِّ؛ لكونه يعرف أن من الأئمة من يؤخر الصلاة عن وقتها، وقد يقدمها قبل وقتها كما أخبر النبي عنهم، وكذلك الرمي، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين من الخطأ، ولم يكن من كلام رسول الله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فإن التحديد بهذا الزمن القصير قد أفضى بالناس إلى الحرج والضيق حتى شغلتهم شدة الزحام عن الذكر والتكبير وعن الدعاء والتضرع عند هذا المقام، بل وعن العلم بوقوع الجمار في موقعها المشروع من الأحواض، وهذا الزحام من المحتمل أن يزداد عامًا بعد عام، متى كان التحديد على هذه الحال، وذلك لعوامل تساعد على ذلك لم تكن معروفة في السنين السابقة، فمنها فتح مشارق الأرض ومغاربها بالآلات الحديثة من الطائرات والسيارات وسائر الوسائل التي قضت بقصر المسافة وتسهيل السفر حتى صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة، وكأن عواصمها بيوت متقاربة، وقد أشارت المعجزة إلى الإخبار بهذا الشيء قبل وقوعه، كما روى ابن أبي الدنيا عن مكحول مرسلاً، أن رجلاً قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ، وَتَقَارُبُ أَسْوَاقٍ»، وفي البخاري: «من أشراطها تقارب الزمان»[105]، وليس من الممكن أن يفسر (تقارب الأسواق) بانضمام الأرض بعضها إلى بعض، ولكن بالآلات البرية والبحرية والهوائية وسائر الوسائل الناقلة للذوات والأصوات والتي كان الناس قبلها يقاسون الشدائد في الأسفار، يسيرون المدة الطويلة من الزمان ولا يبلغون منتهى قصدهم من وصول مثل هذه الديار، أضف إليه ما يعرض لهم من المهالك والأخطار، وما يلاقونه من المخاوف والأوجال، لكون الحاج في زمن لم يبعد في التاريخ كان هدفًا للأغراض، ونهبًا للأعراب، يعدون الاعتداء عليهم بالنهب والسلب من أعظم الأعمال، ولا يعولون عليه في منع هذا الظلم المستمر سوى تعززهم بالخفراء المستأجرين، على أنه لا يدفع عنهم الخطر بجملته، لكنه قد يقلله ولأجله يكون الحجاج بجملتهم قليلين بالنسبة إلى هذه السنين؛ لأنه لا يحج في الغالب إلا الناس المعدودون بالقرب من مكة، أما أهل البلدان البعيدة فلا يحج منهم إلا النادر، لبعد الشقة وشدة المشقة ووحشة الطريق ونصب وسائل التعويق، فهم لا يستطيعون لوصوله حيلة ولا يهتدون سبيلا.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها
قلل الجبال ودونهن حتوف
الرِّجل حافية وما لي مركب
والكف صفر والطريق مخوف
أما الآن وفي هذا الزمان، فقد قصرت المسافات وسهلت المواصلات، ودكت عقبات التعويق وقطع دابر قطاع الطريق، وزد عليه حصول الأمن المستتب في أنحاء الحرم وسائر السبل المفضية إليه حتى إن الناس فيه آمَنُ منهم في أوطانهم، فمن أجله وفد الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجأرون وهم من كل حدب ينسلون وفي كل زمان يزيدون فاشتد الزحام عند هذا المقام وشق الرمي على الخاص والعام، من أجل أن الفقهاء حددوه بما بين الزوال إلى الغروب، وهو لا يسع الخلق الكثير فصار من تكليف ما لا يستطاع، وأن القول به مستلزم للعجز عنه في هذا الزمان. والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ومن المعلوم أن للفقهاء - رحمهم الله - تحديدات وتقييدات يستيقن العلم الصحيح نفيها، ويقوى في القياس ضعفها، كما حددوا مسافة السفر المبيح للقصر بيومين، وكما حددوا الإقامة الموجبة لإتمام الصلاة بأربعة أيام، وكما حددوا صحة الجمعة بحضور أربعين من أهل وجوبها، إلى غير ذلك من التحديدات والتقييدات التي لا أصل لها.
وتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب هو نوع من ذلك، وقد خطب النبي ﷺ يوم عرفة ثم يوم العيد، ثم أوسط أيام التشريق، وبيَّن للناس ما يحتاجون إليه، وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ»، حتى سأله رجل فقال: يا رسول الله رميت بعدما أمسيت؟ فقال: «ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ». رواه البخاري من حديث ابن عباس، والليل يدخل في مسمى المساء.
فنفى رسول الله ﷺ وقوع الحرج من كل ما يفعله الحاج من التقديم والتأخير لأعمال الحج التي تُفعل في يوم العيد وأيام التشريق.
وهذا الحكم قاطع للنزاع، يعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ للناس بنص جلي قطعي الرواية والدلالة وارد مورد التشريع العام، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وأما الاستدلال باستمرار عمل الناس على الرمي بعد الزوال زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه وأصحابه إلى هذه السنين.
فجوابه: أننا لا ننكر أن ما بعد الزوال هو أفضل ما يرمى فيه لو وسع الناس كلهم، لكننا لا نقول بفرضه فيه، وإنما غاية ما يقال: إن ما بعد الزوال هو وقت فضيلة، وما قبل الزوال وبالليل وقت إباحة، أشبه الوقوف بعرفة، فإن ما بعد الزوال إلى الغروب هو أفضل ما يوقف فيه اقتداءً بفعل رسول الله ﷺ وفعل خلفائه وأصحابه، والليل كله إلى فجر يوم العيد وقت إباحة للوقوف، وإن لم يستمر عليه عمل الناس.
والحالة الآن هي حالة ضرورة توجب على العلماء والحكام إعادة النظر فيما يزيل هذا الضرر ويُؤَمِّن الناس من مخاوف الخطر الحاصل من شدة الزحام والسقوط تحت الأقدام، إذ شدة هذا الزحام تزداد عامًا بعد عام، كما أنها لو ضاقت منى عن مناخ الناس كان من الجائز أن ينزلوا بما قرب منها، حتى ولو في وادي محسر؛ لأن ما جاور الشيء يعطى حكمه، كما قالوا في زوايد المسجد الحرام على حدوده السابقة، بأن حكم الزائد حكم المزيد في الحد والفضيلة.
ولأن المقصود من نزول منى هو إتمام أعمال الحج المتعلقة في مثل النحر والحلق والرمي، ولأنها حالة ضرورة، وقد قيل: إن الحاجة هي أم التحقيقات، وللضرورة حالات، ويتعلق بها أحكام غير أحكام السعة والاختيار.
ولو فكروا في نصوص الدين بإمعان ونظرٍ لوجدوا فيه الفرج من هذا الحرج؛ لأن نصوص الدين كفيلة بحل كل ما يقع الناس فيه من الشدات والمشكلات، يؤكده أن الرمي أيام التشريق يقع بعد التحلل الثاني من عمل الحج، بحيث يباح للحاج أن يفعل كل شيء من محظورات الإحرام حتى النكاح، ولكون الإنسان إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق رأسه فقد تحلل التحلل الأول لحديث عائشة أن النبي ﷺ قال: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيْبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ». رواه أبو داود. فإذا طاف طواف الإفاضة، فقد تحلل التحلل الثاني، بحيث لو مات لحكم بتمام حجه، فناسب التسهيل وعدم التشديد في التحديد، إذ هي من فروع المسائل الاجتهادية، يوضحه أن الفقهاء من الحنابلة والشافعية قالوا: إنه لو جمع الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد فرماها في اليوم الثالث من أيام التشريق أجزأت أداء؛ لاعتبار أن أيام منى كلها كالوقت الواحد، قاله في المغني والشرح الكبير، وكذا في الإقناع والمنتهى، وهو المذهب، وحكى النووي في المجموع: أنه الظاهر من مذهب الشافعي.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن أيام منى كالوقت الواحد حسبما ذكروا، فإذًا لا وجه للإنكار على من رمى قبل الزوال والحالة هذه، فإن من أنكر الرمي قبل الزوال أو بالليل بحجة مخالفتها لفعل النبي ﷺ وفعل أصحابه، وقال بجواز رميها مجموعة في اليوم الثالث، فإنه من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه، فإن رمي كل يوم في يومه ولو قبل الزوال أقرب إلى إصابة السنة، بحيث يصدق عليه أنه رمى في اليوم الذي رمى فيه رسول اللهﷺ، لاسيما إذا صحب هذا الرمي ما يترتب عليه من الذكر والتكبير والدعاء والتضرع، بخلاف جمعها ثم رميها في اليوم الثالث في حالة الزحام، حتى لا يدري أصاب الهدف أم وقعت بعيدًا منه، فإن جمعها ثم رميها في اليوم الثالث إنما ورد في حق المعذورين برعاية الإبل من أجل غيبتهم عن منى، على أن كُلًّا من الأمرين صحيح إن شاء الله، لدخول الناس كلهم في واسع العذر بداعي مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام.
وكل من تأمل الفتاوى الصادرة من النبي ﷺ بعد التحلل الثاني يجدها تتمشى على غاية السهولة واليسر، فقد استأذنه العباس في أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له، على أن هذا الإذن مستلزم لترك واجبين وهما المبيت والرمي، ولم يأمره في أن يستنيب من يرمي عنه ولا من يسقي عنه، على أن الاستنابة في كلا الأمرين ممكنة، وقيل له: إن صفية قد حاضت، قال: «فَهَلْ طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ؟». قالوا: نعم، قال: «فَلْتَنْفِرْ إِذًا»[106]. فأسقط عنها طواف الوداع وهو معدود من الواجبات، ولم يأمرها في أن تستنيب من يطوف بدلها، ورخص لرعاة الإبل في المبيت عن منى، بأن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا جمار الأيام الثلاثة يرمونها يوم النفر في أي ساعة شاؤوا من ليل أو نهار.
واختلف العلماء في المعذور مثل المريض الذي لا يستطيع الرمي والشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وكل من لا يستطيع الوصول إلى الجمار: هل يسقط عنه الرمي سقوطًا كليًّا أم يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه؟ فعند الفقهاء من الحنابلة والشافعية أنه يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه كالمعضوب، فإن لم يفعل فعليه دم، وبنوا على ذلك كون العذر في المبيت يسقط الإثم والدم، والعذر في الرمي يسقط الإثم دون الدم، وهذا تفريق بين متماثلين لا يقتضيه النص ولا يوافقه القياس، فإن النبي ﷺ لم يأمر العباس في أن يستنيب من يرمي عنه، ولم يأمر الحائض في أن تستنيب من يطوف عنها طواف الوداع، وهو معدود من الواجبات.
على أن الاستنابة في كلا الأمرين ممكنة؛ يؤكده أن ما تُرك من الواجبات للعذر وعدم القدرة على الفعل، فإنه بمنزلة المأتي به في عدم الإثم، ولأن الدم إنما يجب في ترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار، وهذا لم يترك مأمورًا ولم يفعل محظورًا باختياره، وإنما تركه عجزًا، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[107]؛ لأن الله سبحانه إنما أوجب فرض الحج على المستطيع، وقد نص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه، أو أهله، أو ماله، فإذا كان هذا السقوط في أصل الحج فما بالك بفرعه، ولأن العبادات كلها ما قدر عليه منها فعله وما أعجزه سقط عنه، وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقراء؛ ولهذا تجب الصلاة بحسب الإمكان، وما عجز عنه من شروطها وواجباتها سقط عنه. على أن شروط الصلاة وواجباتها آكدُ من شروط الحج وواجباته، فإنه لو ترك شيئًا من واجبات الصلاة عمدًا بطلت صلاته، بخلاف لو ترك شيئًا من واجبات الحج عمدًا، فإنه لا يبطل بذلك حجه ويجبره بدم.
وأما الاستدلال على وجوب الاستنابة بحديث جابر قال: حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَلَبَّيْنَا عَنِ الصِّبْيَانِ، وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ. رواه أحمد وابن ماجه، فهذا لا يدل على الوجوب قطعًا، فإن أصل الحج لا يجب على الصبي وكذلك فرعه، ولأن التلبية عنهم ليست بواجبة وكذلك الرمي، وغاية الأمر أن يقال: إن استنابة المعذور من يرمي عنه أحوط خروجًا من خلاف من قال بوجوبه.
وأما الاستدلال بحديث: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[108]، وأن الرمي بعد الزوال هو من المناسك التي فعلها النبي ﷺ والتي أمر أن تؤخذ عنه.
فالجواب: أن هذه كلمة جامعة، فإن المناسك التي نسكها رسول الله ﷺ والتي أمر أن تؤخذ عنه تشمل الواجبات والمستحبات مثل الاغتسال للإحرام، والتلبية، والاضطباع في الطواف، والرمل، وتقبيل الحجر، وصلاة ركعتي الطواف، وغير ذلك من العبادات التي نسكها رسول الله في حجه وهي من المستحبات، وكل من عرف قواعد الشريعة وأصولها المعتبرة وما تشتمل عليه من الحكمة والمصلحة والرحمة ومنافاتها للحرج والمشقة؛ عرف حينئذ تمام المعرفة أن في الشريعة السمحة ما يخرج الناس عن هذه الشدة والمشقة التي يعانيها الناس عند الجمار؛ لأن الدين عدل الله في أرضه ورحمته لعباده، لم يشرعه إلا لسعادة البشر في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية، ومن قواعده أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير. قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ﴾ [الحج: 78]، وقال: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185].
فهذه المشقة التي يعانيها الناس عند الجمار لا يجوز نسبة القول بها إلى الشرع، إذ لا دليل على هذا التحديد لا من الكتاب ولا من السنة ولا قياس ولا إجماع. غاية القول فيها أنه جرى على حسب الاجتهاد من الفقهاء الذين ليسوا بمعصومين من الخطأ، وليس من كلام رسول الله ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فإن رمي النبي ﷺ وخلفائه وأصحابه فيما بين الزوال إلى الغروب هو بمثابة وقوفهم بعرفة فيما بين الزوال إلى الغروب، على أنه لم ينته بذلك حد الوقوف، بل الليل كله وقت للوقوف.
وبما أن الرمي من واجبات الحج، فإنه يتمشى مع نظائره من الواجبات مثل النحر والحلق والتقصير فيدخل بدخولها في الزمان، ويجاريها في الميدان، إذ الكل من واجبات الحج التي يقاس بعضها على بعض عند عدم ما يدل على الفرق، وقد دلت نصوص الشريعة السمحة على أن الصواب في مثل هذه المسألة هو وجوب التوسعة، وعدم التحديد بالزوال، بل يجوز قبله وبالليل، كما دلت عليه نصوص طائفة من العلماء، فلم تُجمع الأئمة - ولله الحمد - على المنع ولا على وجوب هذا التحديد، إذ كانوا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى الرسول، فيتبين لهم بذلك كمال دين الله وحكمة شريعته وكونه صالحًا لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام في شؤون عباداتهم من حجهم وصلاتهم وصيامهم.
وبالجملة، فإن القول بجواز الرمي أيام التشريق قبل الزوال مطلقًا هو مذهب طاوس وعطاء، ونقل في التحفة عن الرافعي أحد شيخي مذهب الشافعي الجزم بجوازه، قال: وحققه الأسنوي وزعم أنه المعروف مذهبًا.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال للمستعجل مطلقًا، وهي رواية عن الإمام أحمد، ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله: وعنه يجوز رمْيُ متعجل قبل الزوال، قال في الإنصاف: وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال، وقال في الواضح: ويجوز الرمي بعد طلوع الشمس في الأيام الثلاثة، وجزم به الزركشي، ونقل في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي، أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس، وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل أو أية ساعة من النهار، قال الموفق في كتابه الكافي: وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم، قال: فيرمون كل يوم في الليلة المستقبلة، قال في الإنصاف: وهذا هو الصواب، وقاله في الإقناع والمنتهى وهو المذهب.
فعلم من هذه الأقوال أن للعلماء المتقدمين مجالاً في الاجتهاد في القضية وأنهم قد استباحوا الإفتاء بالتوسعة، فمنهم من قال بجواز الرمي قبل الزوال مطلقًا، أي سواء كان لعذر أو لغير العذر، ومنهم من قال بجوازه لحاجة التعجل، ومنهم قال بجوازه لكل ذي عذر، كما هو الظاهر من المذهب، فمتى أجيز لذوي الأعذار في صريح المذهب أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، فلا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وآكدُ من كل عذر، فيدخل فيه جميع الناس في الجواز بنصوص القرآن والسنة وصريح المذهب، والنبي ﷺ ما سئل يوم العيد ولا في أيام التشريق عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افعل ولا حرج»[109] فلو وجد وقت نهي غير قابل للرمي أمام السائلين لحذرهم منه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، فسكوته عن تحديد وقته هو من الدليل الواضح على سعته، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين عن الخطأ ولم يكن من كلام من لا ينطق عن الهوى. فإن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه واحمدوا الله على عافيته ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
حرر في 5 شعبان عام 1393هـ.
[99] رواه الدارقطني والطبراني في المعجم الكبير عن أبي ثعلبة. [100] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو. [101] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث جابر. [102] أخرجه البيهقي في السنن الصغرى من حديث عائشة. [103] الظُّعُن: النساء، واحدتها: ظعينة. والحديث متفق عليه من حديث أسماء. [104] أخرجه أصحاب السنن من حديث ابن عباس. [105] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [106] أخرجه أحمد من حديث عائشة. [107] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [108] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث جابر. [109] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو.