متقدم

فهرس الكتاب

 

صفة حج النبي ﷺ

وفي السنة العاشرة أذن في الناس أن رسول الله ﷺ حاج، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله ﷺ ويعمل مثل عمله، فخرج رسول الله ﷺ من المدينة حتى نزل ذا الحليفة وبات بها حتى طلعت الشمس ثم اغتسل وتطيب، قالت عائشة: طيبت رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. لهذا كان يُرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله ﷺ وهو محرم، ولبس ثياب إحرامه إزارًا ورداء، ثم صلى ركعتين في مسجد ذي الحليفة، وتسمى بركعتي الإحرام، ثم أهلّ بالتوحيد: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»، وأهلَّ الناس بالذي يهلون به ولزم رسول الله ﷺ تلبيته.

وولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، وأرسلت إلى رسول الله ﷺ: كيف أصنع؟ فقال: «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي»[88].

ثم إنه لقي ركبًا بالروحاء، فقال: «مَنِ الْقَوْمُ؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ» فرفعت امرأة إليه صبيًّا، فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»[89].

واعترضت له امرأة من خثعم، وقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»[90]. وذلك في حجة الوداع، وسألته امرأة من جهينة وقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: «نَعَمْ، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»[91].

وسميت هذه الحجة بحجة الوداع لكونه ودع الناس فيها وقال: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا»[92]، وأنزل الله عليه بعرفة يوم الجمعة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ [المائدة: 3]، كما أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق سورة النصر: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣ [سورة النصر]، وفي هذه السورة الإشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ، كما فسرها بذلك ابن عباس.

ولهذا توفي النبي ﷺ بعد حجته ببضعة وثمانين يومًا، وكان غالب من حج مع النبي ﷺ هم أهل المدينة ومن حول مكة من الأعراب؛ لكونه لم يُفتح في زمنه شيء من البلدان ما عدا الطائف.

ولهذا يعد العلماء تحديد المواقيت من معجزات نبوته، حيث حددها قبل إسلام أهلها، فوقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، فمن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة. رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، ولهذا قال ابن عبد القوي:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدد
فالناس لا يعرفون أحكام حجة الإسلام إلا من طريقه ﷺ فهم يتبعونه في سائر أفعاله من الواجبات والمستحبات، كما يتبعونه في الصلاة، ولهذا توسع الخلاف جدًّا بين الأئمة وفقهاء المذاهب في مسائل الحج كلها اختلافًا لا يعهد له نظير في سائر العبادات، اختلفوا في إحرام رسول الله ﷺ، فمنهم من قال: أحرم مفردًا. ومنهم من قال: أحرم متمتعًا. ومنهم من قال: أحرم قارنًا. واختلفوا في إحرام التمتع، فمنهم من قال باستحبابه، ومنهم من قال بمنعه، واختلفوا في السعي بين الصفا والمروة، فمنهم من قال: هو ركن. ومنهم من قال: هو واجب. ومنهم من قال: مستحب. واختلفوا هل يجب على المتمتع طوافان وسعيان أم يكفيه طواف واحد وسعي واحد كالقارن، إلى غير ذلك من الاختلاف.

والأمر الثابت عن رسول الله ﷺ أنه تجرّد لإحرامه واغتسل وتطيب ثم أحرم ولبى قارنًا، وكذا أمر عائشة، حين حاضت (بسَرِف) بأن تدخل عمرتها على الحج حتى تصير قارنة، وأن تفعل ما يفعل الناس غير ألا تطوف بالبيت حتى تطهر، وقال لها: «إِنَّ طَوَافَكِ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ»[93]. وطاف رسول الله طواف القدوم وطاف الناس معه، ثم صلى ركعتي الطواف بالمقام، ثم خرج إلى الصفا فسعى بين الصفا والمروة سبعًا، وعند انتهائه قال لأصحابه عند المروة: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً» حتى قال سراقة بن مالك بن خثعم: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «لَا، بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[94]. فحل الناس كلهم وقصروا إلا رسول الله ﷺ ومن كان معه هدي، حتى قال رجل: يا رسول الله، الحل ماذا؟ فقال: «الْحِلُّ كُلُّهُ»[95] فحلوا من إحرامهم ولبسوا ثيابهم ودارت المجامر بينهم، وأوجب الله عليهم عن هذا الترفه والتمتع ذبح هدي لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.[البقرة: 196].

وفي اليوم الثامن أحرم بالحج كل الذين حلوا من إحرامهم وتوجهوا إلى منى فنزلوا بها، حتى إذا كان يوم عرفة أتى إلى نمرة، حتى إذا زاغت الشمس صلى بالناس الظهر والعصر جمع تقديم بأذان وإقامتين، ثم خطب الناس وعلمهم كيفية حجهم من وقوفهم وانصرافهم، ولم يزل واقفًا بعرفة يدعو ويتضرع حتى غابت الشمس، فانصرف وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحل رسول الله ﷺ وهو يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» [96]. كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى مزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء قصرًا وجمعًا بأذان وإقامتين، ورخص رسول الله للضعفة وللنساء أن يدفعن قبله ليلاً، وبات هو وأصحابه بمزدلفة حتى وصلوا بها الفجر، ثم وقف يدعو ويستغفر الله حتى أسفر جدًّا، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى منى، فبدأ برمي جمرة العقبة فرماها ضحى بسبع حصيات وهو على راحلته، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه (وعدده مائة بدنة، نحر منها ثلاثًا وستين بدنة بيده وكن يزدلفن بين يديه، أي تبرك الناقة قبل الأخرى، ووكل عليًّا فنحر الباقي)، ثم حلق رأسه ثم حل من إحرامه، ولبس ثيابه وتطيب.

ثم خطب الناس يوم العيد وبين لهم ما ينبغي أن يفعلوه، وجعل الناس يسألونه، فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ». فبعد أن أكل من لحم هديه، وشرب من مرقه، ركب راحلته ودفع إلى مكة والناس معه، فطاف بالبيت طواف الإفاضة، وصلى ركعتي الطواف عند المقام، ثم أتى بني عبد المطلب، وهم يسقون في زمزم، فقال: «انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ» فناولوه دلوًا فشرب منه وهو قائم[97]، ثم صلى بالناس الظهر في المسجد الحرام قصرًا، وقال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[98]، ثم رجع إلى منى وبات فيها.

وفي اليوم الثاني جعل الناس يسألونه، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افْعَلْ، وَلاَ حَرَجَ» حتى قال رجل: يا رسول الله، رميت بعدما أمسيت، فقال: «ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ» رواه البخاري من حديث ابن عباس، والليل يدخل في مسمى المساء. حتى إذا زالت الشمس قام لرمي الجمار وقام الناس معه، فبدأ بالجمرة الأولى فرماها بسبع حصيات، ثم وقف عندها طويلاً يدعو ويتضرع، ووقف الناس صفوفًا يدعون ويتضرعون، ثم رمى الثانية مثل ذلك ووقف عندها طويلاً يدعو ويتضرع، ثم رمى جمرة العقبة ولم يقف عندها، قيل: من أجل ضيق المكان. ثم انصرف إلى مسجد الخَيْف فصلى بالناس الظهر ركعتين قصرًا من غير جمع؛ لأن من هدي رسول الله ﷺ أنه كان يقصر الصلاة في منى ولا يجمع، وإنما يصلي كل فرض في وقته، قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله كان يجمع في منى فقد كذب عليه. ففعل في اليوم الثاني والثالث مثل ذلك، يرمي الجمار بعد الزوال ثم ينصرف إلى مسجد الخَيْف فيصلي بالناس الظهر، وكأنه حاول الرفق بالناس ليخرج بهم مخرجًا واحدًا لرمي الجمار وللصلاة في مسجد الخَيْف لكون حجه صادف شدة حر، حتى إن بلالاً يظلله عن الشمس عند الجمار. ولهذا نرى كثيرًا من الفقهاء يذكرون في كتبهم استحباب الصلاة بعد رمي الجمار في مسجد الخَيْف، تأسيًا بفعل النبي وأصحابه، ثم إنه عمِلَ الخلفاءُ الراشدون بمثل عمله، يرمون الجمار بعد الزوال ثم يصلون صلاة الظهر في مسجد الخَيْف.

ثم أخذ أمراء الحج من بني أمية وبني العباس يعملون بمثل ذلك، ثم استمر عمل الناس على ذلك؛ لأن مجموع الحاج كانوا قليلين بالنسبة إلى هذه السنين، فيختارون للرمي من الوقت أفضله، ويتمكنون من القيام بمشروعيته: الدعاء والتضرع، والذكر والتكبير عند هذا المقام من أجل قلتهم وسعة المكان، وقبل أن يوجد في منى شيء من البنيان.

* * *

[88] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [89] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عباس. [90] أخرجه النسائي والترمذي من حديث الفضل بن عباس. [91] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [92]أخرجه أبو يعلى من حديث جابر. [93] أخرجه أبو داود من حديث عائشة. [94] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [95] متفق عليه من حديث جابر. [96] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [97] أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله. [98] أخرجه الطيالسي في مسنده من حديث عمران بن حصين.