المدرك التاسع: الاستدلال بحديث "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" على التفريق بين الإسلام والإيمان غير صحيح
قال الشيخ عبد العزيز: ((إن اسم الإيمان ينتفي عمن ترك شيئًا من واجباته كما في قوله ﷺ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ..» الحديث، وأما الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته.. )) انتهى.
فالجواب: أن الشيخ عبد العزيز يقول: ((إن الإيمان ينتفي عمن ترك شيئًا من واجباته)) ثم يستدل بحديث: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ» وهي بالحقيقة من ارتكاب المنهيات وليست من ترك الواجبات، والفرق عظيم بين ترك الواجبات وبين ارتكاب المنهيات. إذ إن ترك الواجبات أشد من ارتكاب المنهيات؛ لأنها أول ذنب عُصي الله به حين ترك إبليس السجود لآدم..
وقد ذكر شيخ الإسلام الفرق بين ترك الواجبات وفعل المنهيات، وأن ترك الواجبات أشد من ارتكاب المنهيات بأكثر من ثلاثين وجهًا، وأشار إليها العلامة ابن القيم في كتاب الفوائد.
ولفظ الحديث في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.. وهذا الحديث من أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت، وللعلماء فيه تفسيرات متنوعة. وحاصلها أننا لا نقول في الزاني: إنه ليس بمؤمن. إلا على طريقة الخوارج الذين يكفرون بالذنب، أو المعتزلة الذين يقولون: إنه بمنزلة بين المنزلتين.
أما أهل السنة فإنهم يعبرون عن مرتكب الكبيرة من الزنا والسرقة وشرب الخمر بأنه مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته، فلا يخرجونه من الإيمان بكبيرة الزنا، كما أنهم لا يعطونه كمال الإيمان، لكون الكبيرة تنقص إيمان فاعلها، وقد يتزايد هذا النقص مع الإصرار عليه وعدم التوبة منه حتى تئول إلى ما هو أكبر منها، وهذا معنى قولهم: إن المعاصي بريد الكفر، وقد ترجم عليه البخاري.. فقال: باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر وفي عقيدة السفاريني.
لا يخرج المرء من الإيمان
بموبقات الذنب والعصيان
وواجب عليه أن يتوبا
من كل ما جر عليه حوبا
ومن يمت ولم يتب من الخطا
فأمره مفوض لذي العطا
فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم
وإن يشأ أعطى وأجزل النعم
ثم إن لفظ الحديث في قوله: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، أي حين ارتكابه لهذه الجريمة حال كون فرجه في فرجها، فلا ينطبق عليه هذا الوصف على ما قبل الزنا ولا ما بعده، والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقد يخرج الشخص من الإيمان بمقتضى علم الله وإحاطته بسره وعلانيته، لكنه يعامل معاملة المسلمين المؤمنين في سائر الأحكام، ولنعلم أن من ليس بمؤمن فإنه الكافر أو المنافق، لكنه تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر.
فالذي يعتقد إنكار وجود الرب والتكذيب بالملائكة والتكذيب بالنبيين أو بالمعجزات التي أيدهم الله بها وأثبتها القرآن، أو التكذيب بالبعث بعد الموت أو الجنة والنار ويكتم هذا الاعتقاد في نفسه ولا يظهره للناس، فهذا هو المنافق الذي منزلته في الدرك الأسفل من النار.. لكنه يعامل معاملة المسلمين المؤمنين في الدنيا، ويسمى هذا النفاق الاعتقادي وهو النفاق الأكبر.
أما النفاق العملي فهو مثل ما ورد في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ». وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص، أن النبيﷺ قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ». وزاد مسلم: «وَإِنْ صَلَّى، وَصَامَ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ».
فهذا نفاق عملي، ويسمى النفاق الأصغر؛ لأن حقيقة النفاق هو إظهار الخير وإبطان الشر، فبعضه أشد من بعض، وهذا النفاق لا يخرج عن الملة، بل صاحبه تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه كسائر عصاة الموحدين..