المدرك السابع: الاعتماد على حديث جبريل عليه السلام في التفريق بين الإسلام والإيمان اعتماد غير صحيح
استدل الشيخ عبد العزيز بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [الأحزاب: 35]، وبحديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان، وبحديث سعد بن أبي وقاص، قال: أعطى النبي ﷺ رجالاً ولم يعطِ رجلاً.. فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان وهو مؤمن؟ فقال: «أو مسلم»[124].. قال: ((فيه دليل على مغايرة الإسلام للإيمان وأنهما اسمان لمعنيين مختلفين.. )) انتهى.
فالجواب: أن الإسلام والإيمان متى تفرّقا اجتمعا، فيدخل الإسلام في الإيمان بعمل الجوارح، ويفسر الإيمان بالتصديق بالقلب، ولا يكفي التصديق بالقلب بدون عمل الجوارح ولا عمل الجوارح بدون التصديق بالقلب.
وكأن فضيلة الشيخ عبد العزيز يرى أن الإسلام بدون إيمان يوجد في شخص، بحيث يشار إليه بالبنان ويقال: هذا مسلم وليس بمؤمن، وأنه لا تلازم بينهما، وهذا خطأ مبين وعدم فقه في الدين، وفي نصوص القرآن الحكيم. فليس في الشرع مسلم ليس بمؤمن، ولكن الشيخ يريد أن لا يعتق نفسه من رق الاعتقاد الخاطئ الذي نشأ عليه في حالة الصغر.. وما أسرع ما نسي عقيدة أهل السنة من أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وأنه متى فُقد أحدهما فقد الآخر.. أشبه الرأس والقلب.. فإنه لا حياة للشخص بدون اجتماعهما، فلو رأينا شخصًا يعتقد الإيمان بالله واليوم الآخر ويصدق بوجود الملائكة والجنة والنار، ولكنه يقول: لا أصلي ولا أصوم ولا أؤدي الزكاة ولا أصدق بوجوب ذلك عليَّ.. فإن هذا كافر قطعًا وليس بمسلم ولا بمؤمن لمناقضته للإيمان.
كما أننا لو رأينا رجلاً يحافظ على أحكام الإسلام الظاهرة، ولكنه لا يصدق بوجود الرب ولا الملائكة ولا البعث بعد الموت ولا بالجنة والنار، فإن هذا ليس بمسلم ولا مؤمن. وكيف نسي فضيلة الشيخ قول العلماء في حكم المرتد، وأن من جحد وجود الرب، أو جحد صفة من صفاته، أو جحد وجوب العبادات الخمس أو شيئًا منها، فإنه يكفر إلا أن يكون حديث عهد بجاهلية فيعرف وجوب ذلك، فإن أصرّ حُكم بكفره.
ومتى صح الإيمان صلحت أعمال الإسلام، ومتى فسد الإيمان فسدت الأعمال، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»[125].
وقد فسر النبي ﷺ الإيمان بعمل الإسلام، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس، أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي ﷺ قال: «مَنِ القَوْمُ؟ أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟» قالوا: ربيعة، فقال: «مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوِ الْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا». فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر.. فأْمُرْنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة.. فأمرهم بأربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ»، ففسر النبي ﷺ الإيمان بأعمال الإسلام لارتباط ما بينهما، كما فسره أيضًا بقوله: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»[126] ومن المعلوم أن قول: لا إله إلا الله، وإماطة الأذى عن الطريق والحياء كلها من أعمال الإسلام وسماها رسول الله بالإيمان.
إن كل من يتأمل القرآن فإنه يجده يصف أهل الإسلام بأنهم مسلمون، كما يصفهم بأنهم مؤمنون، يقول الله سبحانه: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦﴾ [البقرة: 136].
ومثله قوله: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤﴾ [آل عمران: 84].
وكذلك قوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤﴾ [آل عمران: 64].
ومثله قوله: ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٦٣﴾ [الأنعام: 162-163].
وقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢﴾ [آل عمران: 102]
وكذا قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسۡمِعُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَلَا تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوۡاْ مُدۡبِرِينَ ٨٠ وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ إِن تُسۡمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بَِٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسۡلِمُونَ ٨١﴾ [النمل: 80-81].
ففي آيات كثيرة يصفهم بأنهم مسلمون ولم يذكر معها أنهم مؤمنون، للاكتفاء بذكر الإسلام عن الإيمان ولدخوله في مسماه.. فقوله: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ [آل عمران: 19] أي الإيمان؛ لأنه من لوازمه فلا إسلام بدون إيمان ولا إيمان بدون إسلام، ولن يوجد مسلم صحيح الإسلام بدون إيمان، كما أنه لا يوجد شخص حي بجسم دون رأس.
وأنا أضرب لك مثلاً:
وهو أن الإسلام بمثابة رأس الإنسان؛ لحديث «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ»[127]، والإيمان بمثابة قلب الشخص فلا يكون الإنسان حيًّا سويًّا برأس دون قلب ولا بقلب دون رأس.. والنبي ﷺ حين فسر الإسلام بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج؛ فسر الإيمان بأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالقدر خيره وشره، كما في حديث جبريل.
والنبي ﷺ بهذا التفسير والتفصيل بمثابة الطبيب الحاذق يشخّص حواس الرأس بمميزاته وكونه يشتمل على الدماغ وعلى السمع والبصر وبقية مخصصاته، ثم يشخّص القلب بأوصافه المختصة به، مع العلم أن كل واحد منهما ملازم للآخر صلاحًا وفسادًا وحياة وموتًا، فهما جزء واحد لا يتجزأ.
فقول الشيخ عبد العزيز: ((إن الإسلام والإيمان شيئان متباينان ومختلفان، وأنه ليس كل مسلم مؤمنًا.. )) فيا ليته وصف لنا هذا المسلم الذي ليس بمؤمن وبيَّن لنا صفات أعماله واعتقاده، وقد استدل لذلك بقول سعد في الرجل الذي لم يعطه رسول الله، فقال: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فإني أراه مؤمنًا. فقال: «أَوْ مُسْلِمًا..» قال: ((رواه الإمام أحمد)). ونحن نسوق هذا الحديث بكماله، فإن آخره يفسر أوله.
روى البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان في ترجمة باب: إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل.. قال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أعطى رهطًا -وسعد جالس- وترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أَوْ مُسْلِمًا»، فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان.. فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أَوْ مُسْلِمًا»، ثم قال: «يَا سَعْدُ، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ».
إن رسول الله لا يأنس بالمجازفة بدعوى الإيمان لشخص معين لكون الإيمان اعتقاد قلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى، لحديث «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ»[128]، ومتى ادعاه شخص عند رسول الله عمل معه التحقيق في صحته، كما في حديث حارثة بن النعمان أنه دخل على النبيﷺ فقال له: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟» قال: أصبحت مؤمنًا حقًا. فقال: «انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلَّ قَوْلٍ حَقِيقَةً». فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الشهوات، فأظمأت نهاري بالصيام، وأسهرت ليلي بالقيام، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار في النار يعذبون فيها. فقال: «عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ فَالْزَمْ»[129]. قال ابن رجب: روي هذا الحديث مسندًا وروي مرسلاً والمرسل أصح.
لكن الخطاب باسم المؤمنين على الإجمال كما يقول الخطيب: يا معشر المؤمنين اتقوا الله فهذا جائز ومشروع لقول الله تعالى: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ﴾ [التوبة: 71]، وقوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ﴾ [الحجرات: 10]. لكون الخطاب بهذه الصفة يدخل فيه جميع المسلمين والمؤمنين.
إن الناس زمن النبي ﷺ حديثو عهد بشرك وجاهلية، وأكثر العرب لم يسلموا إلا بعد فتح مكة عام ثمانية من الهجرة. ولم يدخل الإيمان في قلوبهم حال استيلاء الرسول والصحابة عليهم، ولم يوقف رسول الله رجلاً منهم فيسأله: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وكم أركان الإيمان؟ بل تركهم على حالهم، وأخذ الإسلام يدخل في قلوبهم تدريجيًّا شيئًا بعد شيء، وبعد أن عرفوا الإيمان بمقتضى المزاولة والمجالسة والتعلم صاروا مسلمين مؤمنين تبعًا للفاتحين الغالبين.
وبقي فيهم منافقون يظهرون الإسلام والإيمان ويبطنون الكفر والنفاق، ﴿وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ ١٤﴾ [البقرة:14]. وقد أنزل الله فيهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ [البقرة:8-9].
فالرسول يعرف مِنْ هؤلاء ما لا يعرفه سعد؛ لأن الله سبحانه قد أخبره بأسماء بعضهم، كما أنه أخبر حذيفة بن اليمان بذلك وستر عليهم نفاقهم.. فالرسول كره من سعد أن يجزم بإيمان هذا الشخص والإيمان في القلب لا يطلع عليه إلا الله تعالى. كما نهى عن المجازفة في المدح والثناء، فقال: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: فُلَانٌ أَحْسَبُهُ كَذَا، وَاللهُ حَسِيبُهُ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا»[130].
ولما كان رسول الله يعرف من هؤلاء ما لا يعرفه سعد؛ قال له: «أَوْ مُسْلِمًا» أي مستسلمًا بالطاعة والإذعان، كما فسرها البخاري بالترجمة وهي باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، ثم ساق هذا الحديث.
ولهذا أسرع أكثر هؤلاء العرب إلى الردة عن الإسلام بعد وفاة رسول الله ﷺ ومنعوا زكاة أموالهم وقالوا: إنه لو كان نبيًا لم يمت، فقاتلهم الصحابة حتى ردوهم إلى الدين؛ لأنه من المعلوم تفاوت الناس في الثبات على الدين وعدمه وزيادة الإيمان ونقصانه، وإن من الناس من إيمانه كالجبل في الثبات والقوة والاستقامة فلا تزعزعه الفتن، ومنهم من إيمانه كمثقال ذرة في خفته وقلّته ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّٰلِمِينَۚ وَيَفۡعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ ٢٧﴾ [إبراهيم: 27].
وكما أخبر القرآن أن من ﴿ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨﴾ [البقرة: 8]، وهذه الآية نزلت في المنافقين، وكما أخبر النبي ﷺ فيما رواه مسلم عن حذيفة «أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ»، ثم حدثنا عن رفع الأمانة «وَأَنَّ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، مَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَعْقَلَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ».
وقد ترك النبي ﷺ المنافقين يتسمون بالإسلام، وينسبون أنفسهم إلى الصحابة الكرام فيناكحونهم ويوارثونهم، ولما استؤذن رسول الله في قتل رجل منهم قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[131]. لما كانوا ينتسبون إلى صحبته في الظاهر.
وإنما سمي عبد الله بن أُبي ابن سلول بأنه رأس المنافقين من أجل أنه كان يظهر نفاقه ولم يملك كتمانه، وقد شهد عليه زيد بن أرقم بأنه قال: لا تنفقوا على محمد وأصحابه حتى يخرجوا من بلدنا، فما مَثلنا ومَثَلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، فوالله لأن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. يعني بالأعز: نفسه، وبالأذل: الرسول وأصحابه، فأنزل الله تعالى تصديق شهادة زيد، بقوله: ﴿هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْۗ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَفۡقَهُونَ ٧ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعۡنَآ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ لَيُخۡرِجَنَّ ٱلۡأَعَزُّ مِنۡهَا ٱلۡأَذَلَّۚ وَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَٰكِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ٨﴾ [المنافقون: 7-8].
وقد جرى العمل بتحكيم هذه القاعدة وأن جميع المنتسبين للإسلام الذين يصلون الصلوات الخمس ويؤدون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت الحرام أنهم مسلمون مؤمنون على الإجمال بناءً على الظاهر من أعمالهم، ويدخلون في عموم قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡۚ﴾ [الحجرات: 10] وفي عموم قوله ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ»[132]، مع إثبات المغايرة بينهم في الإيمان والإسلام، كما قال سبحانه: ﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ﴾ [التوبة: 97].
وقال: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغۡرَمٗا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَآئِرَۚ عَلَيۡهِمۡ دَآئِرَةُ ٱلسَّوۡءِۗ﴾ [التوبة: 98].. وقال: ﴿وَمِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مَن يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَٰتٍ عِندَ ٱللَّهِ وَصَلَوَٰتِ ٱلرَّسُولِۚ أَلَآ إِنَّهَا قُرۡبَةٞ لَّهُمۡۚ سَيُدۡخِلُهُمُ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦٓۚ﴾ [التوبة: 99]
فالله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه غير مبخوس ولا منقوص ﴿وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا ٤٩﴾ [الكهف: 49].
وكل ما ذكره الله سبحانه عن الأعراب فإنه ينطبق بوصفه على الحضر. فمن الحضر من هو أشد كفرًا ونفاقًا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، ولا يزال النفاق موجودًا في الحضر والأعراب في كل زمان ومكان.
كما قال سبحانه: ﴿وَمِمَّنۡ حَوۡلَكُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ مُنَٰفِقُونَۖ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعۡلَمُهُمۡۖ نَحۡنُ نَعۡلَمُهُمۡۚ﴾ [التوبة: 101].
ومنهم من يتخذ ما ينفق في سبيل الزكاة والصدقة والصلة مغرمًا -أي غرمًا ثقيلاً على نفسه- قد بخل بما آتاه الله من فضله، وهي بالحقيقة مغنم لهم لو كانوا يعلمون، كما قيل:
ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه
مغارم في الأقوام وهي مغانم
كما أن منهم من يتخذ ما ينفق قربات عند الله يرجو ثوابها وأجرها، فهو يحتسبها مغنمًا وليس بمغرم، فتراه يعطي زكاته عن سخاء نفس ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.
وبما أن الشيخ عبد العزيز يدور كلامه على تحقيق وجود مسلمين غير مؤمنين، فإننا نطالبه بتعيين عشرة أشخاص أو خمسة أشخاص من الأحياء الموجودين في الدنيا، بحيث يسميهم بأسمائهم ويقول: هؤلاء مسلمون وليسوا بمؤمنين. حتى يكون لقوله موقع من القبول والصحة في الجدل.
[124] متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. [125] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [126] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي هريرة. [127] أخرجه الترمذي من حديث معاذ بن جبل. [128] أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس. [129] أخرجه البزار من حديث أنس بن مالك. [130] متفق عليه من حديث أبي بكرة. [131] متفق عليه من حديث جابر. [132] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.