المدرك السادس: الإسلام و الإيمان شيئان متباينان. وضعف هذا الرأي
قال الشيخ عبد العزيز بن رشيد رحمه الله: ((أما ما ذكره الشيخ في رسالته من أن الإسلام والإيمان شيء واحد وأنهما اسم لمسمى واحد.. فهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة.. فإن الإسلام والإيمان شيئان متباينان كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
قال الله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡۖ﴾ [الحجرات: 14].. فمعنى هذه الآية دليل على أن الإيمان غير الإسلام وأنه ليس كل مؤمن مسلمًا..)) انتهى.
فجوابه: أن الشيخ عبد العزيز يستبيح الكذب على صاحب الرسالة؛ لأنني لم أقل: إن الإسلام والإيمان شيء واحد وأنهما اسم لمسمى واحد. بل قلت: إن الإيمان تصديق القلب ولوازمه العمل وإلا اعتبر كاذبًا. وقلت: إن المسلمين هم المؤمنون، والمؤمنون هم المسلمون، فمخرجهما في كتاب الله واحد. وإن هذه الآية التي استدل بها نزلت في أعراب الجزيرة، لما غشيهم جنود الصحابة وخافوا من القتل أقبلوا وهم يقولون: آمنا. قبل أن يدخل الإيمان في قلوبهم، وقبل أن يعرفوا أحكام الإسلام، فأنزل الله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ﴾، وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، فقال:
(باب)
إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل، لقول الله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا﴾، وإذا كان على الحقيقة فهو على حد قوله جل ذكره: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ [آل عمران: 19]. فهم في تلك الحالة مستسلمون لحكم الإسلام وحكومته خوفًا من القتل قبل أن يعرفوا الإسلام ولا الإيمان.. لكن هؤلاء الأعراب بعد ما دخلوا في الإسلام وعرفوا الإيمان زال عنهم هذا الوصف وصاروا مسلمين مؤمنين بناء على الظاهر من أعمالهم، ودخلوا في عموم قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ﴾ [الحجرات: 10] وفي قوله ﷺ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ»[112].. فلا يجوز أن يقال: فلان الأعرابي مسلم وليس بمؤمن، لكون الإيمان مجرد التصديق ومن لوازمه العمل وإلا صار كذبًا.
فإن مجرد التصديق بدون عمل هو سببه كفر إبليس حين امتنع عن السجود لآدم، حيث أمره الله به فاستكبر عنه، ولأجله سمي إبليس لكونه أبلس من رحمة الله وإلا فإنه يصدق بوجود الرب والملائكة والجنة والنار، كما أخبر الله عنه في كتابه: ﴿وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ﴾ [إبراهيم: 22]، ومثله ما حكى الله عن اليهود أنهم يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم.. فمجرد التصديق الخالي عن العمل لا يجدي على صاحبه شيئًا ولا يسمى إيمانًا.
والنبي ﷺ إنما كان يطالب الناس بإقامة شعائر الإسلام الظاهرة ولا يسأل عما في قلوبهم من إيمان أو نفاق.. ونحن إنما نتكلم على أعمال الناس الظاهرة حسب القاعدة، والله يتولى الحكم في السرائر..
وفي البخاري أن عمر بن الخطاب خطب الناس بعد موت رسول الله ﷺ فقال: أيها الناس إننا نعرفكم إذ ينزل الوحي فينبئنا الله من أخباركم، وإنما نعرفكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أحببناه وقرّبناه وسريرته إلى الله.. ومن أظهر لنا شرًّا ظننا به شرًّا وأبغضناه ولم نأمنه، وسريرته إلى الله عز وجل.
إنه ليس من الممكن أن يسرع دخول الإيمان إلى قلوب عرب الجزيرة وهم حديثو عهد بجاهلية ويعبدون الأصنام وسلاحهم بأيديهم يحاربون به الرسول والمؤمنين.. أو إلى أهل مكة -حال استيلاء الصحابة عليهم- وهم يعبدون الأصنام ويكذبون بوجود الرب وبالرسول وبالقرآن ويكذبون بالبعث بعد الموت ويكذبون بالجنة والنار، ويقولون ما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ﴾ [الجاثية: 24].
فدخول الإيمان إلى قلوب هؤلاء يحتاج إلى وقت يزاولون فيه بالتعليم بأحكام الإسلام والعمل بشرائعه، ثم يدخل الإيمان تدريجيًّا في قلوبهم. وقد يموت بعضهم على كفره، ولكن القاعدة الأصولية أن كل بلد يفتحها المسلمون ويغلب عليها أحكام الإسلام فإنها بلد إسلام، ومتى أظهر أهلها الطاعة والخضوع وجب الكف عنهم، وفي بعض الغزوات لما شهر بعض الصحابة سيفه يريد قتل رجل في صف المشركين، فقال: لا إله إلا الله. فقتله، ولما أُخبر رسول الله بذلك أنكر عليه قتله.. فقال: يا رسول الله إنما قالها خوفًا من القتل. فقال رسول الله ﷺ: «أَشَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ»[113]، «فَإِنِّنِي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»[114]. ومثله ما جرى لخالد بن الوليد في قتله بني جذيمة، حين أقبلوا عليه وهم يقولون: صبأنا ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا. فقتلهم، فأنكر رسول الله عليه قتلهم.. وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ»[115].
وأول ما يزاول عليه المغلوبون الحديث عهدهم بالشرك هو مزاولتهم على أعمال الإسلام من الوضوء والصلاة والزكاة والصيام، فمتى عرفوا أن لهم ربًّا يصلون ويصومون له، فهذا هو مبدأ الإيمان.. والله سبحانه لم يخاطب عباده بندائهم بالإيمان إلا بعد ما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم.. فناداهم الله سبحانه باسم الإيمان بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣﴾ [البقرة: 183].
وهذه الآية إنما نزلت في أول السنة الثانية من الهجرة، ولا أدري هل نزل قبلها من جنسها شيء أم هي أول ما نزل؟ لهذا لا توجد هذه الصيغة -أي النداء بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ - إلا في السور المدنيات[116]. وكان قبل ذلك يناديهم بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾ في السور المكيات، كما توجد في السور المدنيات أيضًا [117].
لهذا أنزل الله على رسوله وهو واقف بعرفة في السنة العاشرة من الهجرة قوله سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾ [المائدة: 3]، وإذا أفرد الإسلام دخل فيه الإيمان لكونه من لوازمه وكذا عكسه.
كما أن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وعبادة غير الله، ولا يستغني أحدهما عن الآخر أبدًا، فلا يصح إيمان بدون إسلام ولا إسلام بدون إيمان.
والنبي ﷺ قد فصّل ذلك بأحسن تبيان وبما يزيل الإشكال في هذا المقام. فروى الإمام أحمد من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ». ومعنى كون الإسلام علانية: أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي مع المصلين ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.
وهذا معنى ما روى الحاكم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ» من ذلك أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتسلم على من لقيت من المسلمين، وتسلم على أهل بيتك إذا دخلت عليهم.
أما من يتسمى بالإسلام أو بالإيمان وهو لا يصلي الصلوات الخمس المفروضة ولا يؤدي الزكاة الواجبة ولا يصوم رمضان، فلا شك أن إسلامه لا حقيقة له. ما هو إلا إسلام باللسان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.
يقول الله: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ [البقرة: 8-9]. وقال: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ﴾ [المائدة: 41]. فاعملوا بإسلامكم تعرَفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله، فإنه لا إسلام بدون عمل.. وقد نصب الله سبحانه للإسلام علامات ومراسيم يعرف بها إسلام الشخص. ففي الصحيحين من حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالحَجِّ».
وكما في حديث جبريل، حين قال: يا رسول الله أخبرني عن الإسلام، قال: «الْإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: صدقت.. الحديث.
ولما سأل معاذ النبي ﷺ عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار، فأرشده إلى العمل بهذه الأركان.. وهذه الأركان هي بمثابة التصحيح والتمحيص لصحة الإسلام، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والطغيان.
فالمتصف بالعمل بهذه الأركان هو المسلم، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين.
كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار؛ لأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون اختبار لهم بأعمالهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم.. أنا مؤمن.. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ لأن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان ينطق به البر والفاجر حتى عبدة الأوثان.
يقول الله سبحانه: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢﴾ [العنكبوت: 2]، أي: ولا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون. ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ﴾، أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع من الأمر والنهي والصلاة والصيام والحلال والحرام، ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ﴾، أي: في دعوى إيمانهم، فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وصيامهم وسائر ما أوجب الله عليهم، ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣﴾ [العنكبوت: 3]، أي الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام هو محض التسمي به والانتساب إليه بدون عمل به ولا انقياد لحكمه. ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ﴾ [الأنعام: 125]، فيفوح بذكره ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره. ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ﴾ [الزمر: 22]. وكان من دعاء النبي ﷺ على الجنازة: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ»[118]، لكون الإنسان في حال حياته يعمل بشرائع الإسلام، وبعد موته ينقطع ذلك العمل ولم يبق معه سوى الإيمان في قلبه.
وإن كل ما ذكر في الإسلام من الآيات والأحاديث، فإنه يدخل فيه الإيمان، غير أن عناية القرآن والسنة بالإسلام أشد من الإيمان، لكون الإسلام مبني على الأعمال الظاهرة، أما الإيمان فمبني على التصديق بالقلب وحساب صاحبه على ربه.
فقول الشيخ عبد العزيز: ((إن في الآية[119] دليلاً على أن الإيمان غير الإسلام، وأنه ليس كل مسلم مؤمنًا..)) فهذا غير صحيح، فإنه لا يكون الرجل مسلمًا صحيح الإسلام حتى يكون مؤمنًا لتلازم ما بينهما وإلا اعتبر كافرًا.. فلو رأينا رجلاً يحافظ على أعمال الإسلام كلها، بحيث يصلي الصلوات الخمس المفروضة ويؤدي الزكاة الواجبة ويصوم رمضان ويحج البيت الحرام، لكنه لا يصدق بوجود الرب ولا الملائكة ولا بالبعث بعد الموت ولا بالجنة والنار، فإن كان يجهر بعقيدته وعدم تصديقه فهو الكافر المحض، وإن كان يخفيها في نفسه فهو المنافق تجري عليه أحكام الإسلام ويسمى مسلمًا تبعًا للمسلمين المؤمنين الصحيح إيمانهم، لكون الناس لم يكلفوا عن التنقيب عما في القلوب، كما قال النبي ﷺ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»[120].. وهذا الصنف من المنافقين لا يزالون يوجدون في كل زمان ومكان.
لهذا كان يعامل المنافقين في زمنه معاملة المسلمين من الصحابة من التناكح والتوارث بناء على ما ظهر من أعمالهم، فليس عندنا مسلم ليس بمؤمن أبدًا، بل كل مسلم مؤمن بناء على الظاهر من عمله.. والنبي ﷺ قال: «إنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ»[121]. ولا أدري هل يلتحق هذا المسلم الذي ليس بمؤمن بقسم المؤمن التقي أو الفاجر الشقي.. وقد أتى النبيﷺ في هذه القضية بما يقطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع..
وهي قضية وقوع التزاحم على الماء بين المهاجرين والأنصار.. فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار.. فقال رسول الله ﷺ: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلَيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ»[122]، «فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ»[123]. وهذه كافية في قطع النزاع وحل الخلاف لولا أن الهوى يصد عن رؤية الحق، والكبْر يمنع من اتباعه. فإن هذا التداعي بالمسلمين والمؤمنين يجمع جميع المسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها من مسلم ومنافق؛ لكون أعمال الناس تجري على الظاهر من أمرهم.
[112] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
[113] أخرجه مسلم من حديث أسامة بن زيد.
[114] متفق عليه عن أبي سعيد الخدري.
[115] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر.
[116] كسورة البقرة وآل عمران والنساء... (وكلها سور مدنية).
[117] كسورة الأعراف ويونس ولقمان (وهي سور مكية)، وسورة البقرة والحج والحجرات (وهي سور مدنية)
[118] أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة.
[119] يقصد بالآية قوله تعالى: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا يَدۡخُلِ ٱلۡإِيمَٰنُ فِي قُلُوبِكُمۡ﴾ [الحُجرَات: 14].
[120] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري.
[121] أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار من حديث أبي هريرة.
[122] متفق عليه من حديث جابر.
[123] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري.
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت في العبادة الأعضاء
﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا﴾ بالإسلام، ﴿حَرَجٗا﴾ [الأنعام: 125] حرجًا من أمره ونهيه وصلاته وزكاته وصيامه وسائر أحكامه، يحب التحلل منه وعدم التقيد به حتى يعيش في الدنيا عيشة البهائم ليس عليه أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام.. وقد روى الطبراني من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحن نحسن الظن بالله. وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل».