المدرك الاول: أن الرسول والنبي اسمان لمعنيين. وضعف هذا الاعتراض
قال الشيخ عبد العزيز: ((إن ما ذكره فضيلة الشيخ عبد الله، من أنه لا فرق بين النبي والرسول، والحق أن الاسمين اسمان لمعنيين: فإن الرسول أخص من النبي، وأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.. فإن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهو الرسالة)).
قال: ((فالأنبياء والرسل اشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم، واختصت الرسل بإرسالهم إلى الأمة.. قال الله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ﴾ [الحج: 52])).
قال: ((فعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة، ففيها دليل على التغاير بين النبي والرسول)) انتهى.
فالجواب: أن كل شخص لا يبني قوله ونقده على أساس من العلم والمعرفة؛ فإنه سيتخبط في فنون الخطأ والغلط، ومن عادة شيخنا عبد العزيز في نظرياته وتقريراته أنه يرمي بمثل هذه الكلمة على سبيل الخرص والجزاف، غير موزونة بميزان الصحة والإنصاف، ثم يذهب كل مذهب في تحقيقها بما يظهر خطأه على فلتات لسانه ونزوات أقلامه، ويقولون في تفسير الحكمة: إنها إصابة الحق في القول والعمل. فهم يمدحون الثبت المصيب في أن إيراده وارد مورده، وأنشدوا:
ثبت البيان إذا تلعثم قائل
أضحى شِكالاً[109] للسان المطلق
لم يتبع شنعَ اللغات ولا مشى
رسف[110] المقيد في حدود المنطق
في هذه خبث الكلام وهذه
كالسور مضـروبًا له والخندق
من ذلك استدلاله بقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ﴾ [الحج: 52].
قال: ((فعطف النبي على الرسول والعطف يقتضي المغايرة، ففيه دليل على التغاير بين النبي والرسول)).. انتهى.
فيا سبحان الله، لا أدري في أي كتاب من كتب النحو وجد أن العطف بالواو يقتضي المغايرة، فإننا لم نر من فسر العطف بالواو على ذلك.
وإنما حقيقة قول النحاة: أن العطف بالواو لمطلق الجمع للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، وهي من باب عطف الشيء على مصاحبه في الحقيقة أو المعنى، كقوله سبحانه: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ﴾ [البقرة: 238] فعطف الصلاة الوسطى على الصلوات الخمس التي أمر بالمحافظة عليها جميعها ومنها الصلاة الوسطى.. وهي صلاة العصر على القول الصحيح، وخصها بالذكر لمزيد فضلها ويسمونه من عطف الخاص على العام، إذ الكل جنس واحد، وقد أمروا بالمحافظة عليها جميعها، ويسمونه هذا من عطف الشيء على مرادفه وجنسه.
نظيره قوله سبحانه: ﴿مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ ٩٨﴾ [البقرة: 98] فعطف جبريل وميكال على الملائكة وهما من جنسهم.
ومثله قوله: ﴿وَمَن يَكۡسِبۡ خَطِيَٓٔةً أَوۡ إِثۡمٗا ثُمَّ يَرۡمِ بِهِۦ بَرِيٓٔٗا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ١١٢﴾ [النساء: 112]، فعطف الإثم على الخطيئة والخطيئة إثم والإثم خطيئة.
نظيره قوله سبحانه: ﴿وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ﴾ [النحل: 90] فعطف المنكر على الفحشاء، والمنكر من الفحشاء كما عطف البغي على المنكر وهو منكر.
ويقول العلماء: إنه من عطف الشيء على مرادفه وجنسه، ففي الأول معنى الثاني، وفي الثاني معنى الأول.
فقوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ﴾ [الحج: 52]: أي ولا أرسلنا نبيًّا إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، فدلت هذه الآية بفحوى لفظها ومعناها: أن الله يرسل الأنبياء إلى الناس.
نظيره قوله سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا فِي قَرۡيَةٖ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّآ أَخَذۡنَآ أَهۡلَهَا بِٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمۡ يَضَّرَّعُونَ ٩٤﴾ [الأعراف: 94].
ومثله قوله سبحانه: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ﴾ [البقرة: 213].
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر.. أن النبي ﷺ قال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنِ اسْتَعْجَلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا.. الحديث». فوصف رسول الله جميع الأنبياء بإرسالهم إلى الناس بدون استثناء أحد منهم، وأنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، فكلهم مرسلون يبشرون وينذرون، يتبين أن استدلاله بالآية هي حجة عليه لا له.. وهذا جلي لا مجال للشك فيه، غير أن الهوى يعمي عن رؤية الحق والكبر يمنع من اتباعه.
وبالتحقيق نجد القرآن يخاطبهم باسم الأنبياء تارة كما تقدم، وباسم الأنبياء والرسل تارة أخرى، كقوله سبحانه: ﴿۞إِنَّآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ كَمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ نُوحٖ وَٱلنَّبِيِّۧنَ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَٰرُونَ وَسُلَيۡمَٰنَۚ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا ١٦٣ وَرُسُلٗا قَدۡ قَصَصۡنَٰهُمۡ عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُ وَرُسُلٗا لَّمۡ نَقۡصُصۡهُمۡ عَلَيۡكَۚ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمٗا ١٦٤ رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمٗا ١٦٥﴾ [النساء: 163-165].
فهذه الآيات تثبت أن جميع الأنبياء من بعد نوح أنه أوحي إليهم وأنهم أرسلوا إلى الناس مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فأين هؤلاء الأنبياء الذين أُوحي إليهم بشرع من الأمر والنهي والفرائض والأحكام وأمور الحلال والحرام، ثم لم يؤمروا بتبليغه؟! وكيف سكت عن ذكرهم وعدم بيانهم الكتابُ والسنة وما كان ربك نسيًّا؟
وتارة يخاطبهم باسم الرسل خاصة كقوله سبحانه: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۘ مِّنۡهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُۖ وَرَفَعَ بَعۡضَهُمۡ دَرَجَٰتٖۚ﴾ [البقرة: 253].
فإن هذا خلاف ما تقتضي سنة الله في إرسال رسله وأنبيائه.
فقد وصف الله سبحانه الأنبياء بالرسل، كما وصف الرسل بالأنبياء والمعنى واحد، لكون النبي يُنبِّئه الله من وحيه بما شاء، كما قال سبحانه: ﴿قَدۡ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنۡ أَخۡبَارِكُمۡۚ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ﴾ [التوبة: 94].
ثم هو يُنبِّئ عن الله أمره ونهيه وأحكامه وحلاله وحرامه وصلاته وصيامه، كما نجد القرآن يخاطبهم باسم الرسول بقوله: ﴿۞تِلۡكَ ٱلرُّسُلُ ﴾ [البقرة: 253] ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ﴾ [البقرة: 253] ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ﴾ [الأنفال: 64].. فمن لوازم إنزال الوحي على النبي هو الإنذار والتبشير كما هي طريقة الرسل وكما نصف نبينا محمدًا ﷺ بأنه نبي رسول.
.. فوُصِف هذا النبي بإرساله إلى الناس، وبه يتبين أن استدلاله بالآية هو حجة عليه لا له، وهو واضح جلي لا مجال للشك فيه، غير أن الهوى يعمي عن رؤية الحق والكبر يمنع من اتباعه.
نظيره قوله سبحانه: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [البقرة: 213]، فوصف هؤلاء النبيين بالإنذار والتبشير وهي وظيفة الرسل.
وكما في صحيح مسلم عن العباس أن النبي ﷺ قال: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولًا».
وليست هذه التسمية بهذه الصفة من خصائصه، بل يشاركه فيها سائر الأنبياء، إذ ليس عندنا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أن فلانًا نبي، وليس برسول، فيلزم المدعي لذلك إيجاد الدليل الواضح الذي يبين اسم النبي الذي ليس برسول.
﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤﴾ [الأحقاف: 4]، فالتفريق إنما هو تنوع اسم والمسمى واحد.
وفي البخاري ومسلم، أن النبي ﷺ قال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ أَنْبِيَاؤُهُمْ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي». والله سبحانه قد أثنى على المؤمنين القائلين: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق ببن أحد من رسله.
فهذا التفريق الذي ذمه الله، كما أنه يشمل الإيمان ببعضهم والتكذيب ببعض، فإنه يشمل أيضًا إثبات الرسالة لبعضهم ونفيها عن بعضهم، فكله من التفريق الذي ذمّه الله ونهى عنه. فالذي يحتج بإثبات التفريق بين النبي والرسول، يجب عليه بأن يورد لنا أسماء الأنبياء الذين ليسوا برسل، حتى يكون لاحتجاجه موضع من الصحة وموقع من القبول.
[109] الشّكال: العقال (وما يُقيد به). [110] رسف: مشْي المقيد.