متقدم

فهرس الكتاب

 

[النبي محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء والرسل وشريعته آخر الشرائع]

ولقد ثبت بالقرآن والسنة وإجماع الأمة أن محمدًا رسول الله هو خاتم النبيين والمرسلين فلا نبي ولا رسول بعده، يقول الله تعالى: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ [الأحزاب: 40] وفي صحيح البخاري عن النبيﷺ أنه قال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي».

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أيضًا أن النبي ﷺ قال: «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ».

وفي رواية لمسلم عن جابر قال: «أَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ فَخَتَمْتُ الْأَنْبِيَاءَ» وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي الطفيل أن رسول الله قال: «لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ». قيل: وما المبشرات؟ قال: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ» وفي رواية: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ».

وروى البرقاني في صحيحه عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تُعْبَدَ فِئَاتٌ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى».

قال العلامة ابن كثير رحمه الله في التفسير: قد أخبر الله سبحانه في كتابه والسنة المتواترة عن رسول الله أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فإنه كذاب أفاك دجال ضال مضل، حتى ولو أتى بما أتى فإنها محال وضلال... انتهى.

ثم إن السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وهي تذكر الأنبياء دائمًا بدلاً من الرسل. ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. فاجتمعنا فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأمة جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ..» إلى آخر الحديث.

فأخبر النبي ﷺ أنه ما من نبي من الأنبياء إلا كان حقًّا واجبًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم عن شر ما يعلمه لهم، فأين هذا النبي الذي لا تجب عليه الدعوة ولا تبليغ الرسالة؟ لأن هذا هو مقتضى أمانة نبوتهم، لأنه إنما سمي نبيًّا لكونه ينبئ عن الله أمره ونهيه وحلاله وحرامه وسائر فرائضه وأحكامه، فهذه وظيفة جميع الأنبياء كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ ٧٣ [الأنبياء: 73]. أما نبي يوحى إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فهذا إنما يوجد في الأذهان دون الأعيان ويجب تنزيه الأنبياء عن الاتصاف به.

ومثله قوله ﷺ: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأتقنها وجمّلها إلا موضع لبنة منها، تم صنع مأدبة ودعا الناس إليها فجعلوا يعجبون من حسنها إلا موضع تلك اللبنة. قال: فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء» رواه مسلم عن جابر. وقال: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»[99] وقال: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ بَنُو عَلَّاتٍ»[100]. الدين واحد والشرائع متفرقة يعني أن لكل نبي شريعة من الصلاة والزكاة والصيام والحلال والحرام تناسب حالة أمته وزمانه غير شريعة الآخر. قال تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا [المائدة: 48].

ثم جاءت شريعة محمد رسول الله مهيمنة وحاكمة على جميع الشرائع، لأن كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وقد بعث رسول الله محمد إلى الناس كافة قال تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158] وقال: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28] ولما رأى رسول الله مع عمر قطعة من التوراة قال: «يا عمر لقد جئتكم بها بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ولو كان أخي موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي»[101].

فبما أن رسول الله هو خاتم المرسلين فكذلك شريعته هي خاتمة الشرائع، فلا يجوز لأحد أن يتعبّد أو يعمل بشريعة غير شريعته، إذ هي المهيمنة على سائر الشرائع والحاكمة عليها.

يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

واعلم أن بعض العلماء قد ينبو فهمهم عن قبول ما أقول لزعمهم أنه خلاف ما قاله العلماء قبلي، وخلاف ما يعتقده جميع الناس من العلماء والعوام، ولا غرابة في هذا، فإن السنن قد تخفى على بعض الصحابة ومن بعدهم من الأئمة فضلاً عن غيرهم فيحكمون بخلافها، ثم يتبين لهم وجه الصواب فيها فيعودون إليه، لكون الإحاطة بكل العلوم غير حاصلة لأحد، والإنسان مهما بلغ من سعة العلم ما بلغ فإنه سيحفظ شيئًا وتضيع عنه أشياء.

وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة سماها رفع الملام عن الأئمة الأعلام أشار فيها إلى أن بعض السنن تخفى على بعض الصحابة والأئمة فيعذرون حينما يحكمون بخلافها، لكونها لم تبلغهم عن طريق صحيح ثابت تقوم به الحجة عندهم، فيحكمون بخلافها حسب اجتهادهم، لأنهم مجتهدون إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر.

وإنه كلما رسخ علم الشخص في القرآن والحديث والتفسير، وأعطي حظًّا من سعة البحث في التحقيق والتدقيق وحكمة الاستنباط للمسائل الخفية من مظانها بحيث يخرجها من حيّز الخفاء والغموض إلى حيّز التجلي والظهور بالدليل الواضح، ولم يجمد رأيه وفهمه على عبارات المتقدمين قبله، فإنه والحالة هذه سيجد سعة لعذرنا ومندوحة[102] عن عَذلنا[103] فيما طرقناه من هذه المواضيع التي هي غير معروفة ولا مألوفة في عرفهم، ويحمل كلامنا على المحمل الحسن اللائق به، فإن الفقيه الحر يجب عليه أن يربط الأصول بعضها ببعض، فيخصص الشيء بالشيء ويقيس النظير بنظيره، وبربط المعنى الغريب بالأصل المأخوذ من قريب مما يدل على المعنى المراد به.

وقد عملت جهدي في تشخيص هذه القضية بالأدلة القويمة القوية والمألوفة المعروفة، حيث تقبلها العقول ويتلقاها العلماء بالقبول لاعتبار أن باب الاجتهاد في الجزئيات غير مقفول.

لأني وإن كنت أرى في نفسي أني أصبت فيما قلت مفاصل الإنصاف والعدل، ولم أنزع فيه إلى ما يأباه النقل أو ينفيه العقل، لكنني أعرف بأنني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان، فعلى كل أخ مخلص منصف أن يعيد دراسته ويعجم عود فراسته ليتضح له معناه ويقف على حقيقة مغزاه ومبناه، فإن تبيّن له أني خلطت في الدراية وأخطأت في الرواية، وجب عليه أن يكشف لي بكتاب عن وجه ما خفي علي من الصواب، فإن الحق أحق أن يتبع، والعلم جدير بأن يستمع، والقصد واحد والغاية متساوية.

ثم إن العلماء من قديم الزمان وحديثه قد يبدو للمجتهدين منهم اليوم في فهم النصوص وتفسيرها وفهم القرآن واستنباط معانيه وأسرار أحكامه ما لا يبدو للفقهاء وللمفسرين المتقدمين في العصور السالفة، ولولا ذلك لم تتعدد التفاسير. وحسبك مخالفة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله للعلماء قبله في كثير من مسائل الفقه والتفسير والأصول والعقائد، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومن صفة القرآن أنه لا تنقضي عجائبه، وقد وصفوه بالبحر المملوء من الدرر، ولكل غائص على قدر نصيبه منه، كما قال علي رضي الله عنه لما قيل له: هل خصكم رسول الله بشيء؟ فقال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهمًا يعطيه الله عز وجل رجلاً في القرآن[104]. «وَمَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[105].

إنه كلما اتسع علم الشخص اتسع رحبه لتقبل المسائل المستغربة متى كانت مرفقة بالدليل الواضح، وإن لم تكن معروفة أو معمولاً بها في زمانه أو عند فقهاء مذهبه، ومن ثم يتسع مجاله في استنباط نصوص الفقهاء وتحريرها وتقييدها في ضوء المقاصد الشرعية الكلية، وبذلك قد يظهر للمتأخرين المتبحرين في فقه النصوص والأصول ما عسى أن يخفى على المتقدمين. فكم ترك أول لآخر، وكم استفاد عالم من عامي، والحكمة ضالة المؤمن أينما يجدها يلتقطها.

والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

15 ربيع الثاني سنة 1396هـ

* * *

[99] رواه الترمذي من حديث أبي بكر. [100] أخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة. [101] أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة. [102] مندوحة: أي سعة. [103] عذلِنا: لومِنا. [104] أخرجه البخاري من حديث علي بن أبي طالب. [105] متفق عليه من حديث معاوية بن أبي سفيان.