متقدم

فهرس الكتاب

 

[كل نبي أو رسول مأمور بتبليغ ما أوحي إليه]

فقوله تعالى: ﴿رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [النساء: 165] هو نظير قوله: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة: 213] لفظًا ومعنى، وهو تنوع اسم والمسمى واحد، وأن جميع الأنبياء أرسلوا إلى قومهم يحملون رسالة ربهم، يدعونهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فكلهم مبشرون ومنذرون ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةُۢ بَعۡدَ ٱلرُّسُلِۚ [النساء: 165]. وهذه هي الحكمة في بعث الرسل، ثم إن السبب الذي جعل العلماء المتقدمين يغفلون عن نقد هذا بعدم ذكر الخلاف فيه، هو كونه مدرجًا في العقائد التي شبوا ونشؤوا عليها، فلا يتساءلون عن مصدر هذا التفريق، ويقتدي بعضهم ببعض في القول به، كما كنا نعتقده في حداثة سننا، فمثل هذا متى تصدى أحد من العلماء لنقده بالدلائل والبراهين الدالة على صحة ما يقول فعند ذلك ينتبه الناس له، وتنسحب عن قلوبهم الغفلة في الاستسلام بالقول به. وهذا يقع كثيرًا في مسائل الأصول والفروع مما يرجع إلى قوة الاستنباط.
ولم يتناول درة الحق غائص
من الناس إلا بالروية والفكر
وجميع الناس من الأولين والآخرين يُسألون يوم القيامة ويُقال لهم: ماذا كنتم تعملون ﴿مَاذَآ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ ٦٥ [القصص: 65].

ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة: ﴿يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ ١٣٠ [الأنعام: 130] فذكر الرسل ويعني بهم الأنبياء. فإن قيل: في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ ٥٢ [الحج: 52] فعطف بالنبي على الرسول بالواو المفيدة للمغايرة فكأن النبي غير الرسول.

فالجواب: أن مثل هذا يقع كثيرًا في القرآن وفي السنة، يعطف بالشيء على الشيء ويراد بالتالي نفس الأول، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ [الأحزاب:35] فغاير بينهما بحرف العطف، ومعلوم أن المسلمين هم المؤمنون، والمؤمنين هم المسلمون، فلا يقال: فلان مسلم وليس بمؤمن ولا أنه مؤمن وليس بمسلم، وإنما هو تنوع اسم والمسمى واحد. نظيره قوله تعالى: ﴿قُلۡ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّـجِبۡرِيلَ فَإِنَّهُۥ نَزَّلَهُۥ عَلَىٰ قَلۡبِكَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ ٩٧ مَن كَانَ عَدُوّٗا لِّلَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِيلَ وَمِيكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوّٞ لِّلۡكَٰفِرِينَ ٩٨ [البقرة: 97-98] فعطف بجبريل وميكال على الملائكة وهما منهم. والنبي ﷺ قال: «فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ»[96] مثله قول أحدنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وغير ذلك من الألفاظ التي يعطف بعضها على بعض ويراد بالتالي نفس الأول.

ثم إن الله سبحانه تأبى حكمته أن يوحي إلى نبي من الأنبياء بشرع من الأمر والنهي والفرائض والأحكام وأمور الحلال والحرام ثم لا يأمره بتبليغه، بحيث يصر على كتمانه وعدم بيانه بدون حرج ولا إثم عليه، ويكون هذا الشرع الذي أوحاه الله إليه بمثابة الدين الضائع بحيث لا ينتفع به أحد. وما الفائدة بهذا النبي وبهذا الشرع الذي أوحي إليه وهو لم يبلغه إلى الناس؟!! إن هذا لا يكون أبدًا، وليس هو من سنّة الله ولا من شرعه ويجب تنزيه الأنبياء عن الاتصاف به. والله تعالى يقول: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ [آل عمران: 187]. والأنبياء هم رؤوس من أوتوا الكتاب وأُخذ عليهم الميثاق في بيان ما نزل إليهم من ربهم، فهم لا يكتمون الله حديثًا.

ولم نجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في قول أحد من الصحابة أن فلانًا نبي وليس برسول.

ولو سألنا أعمق رجل في العلوم والفنون وأعرفه بعلم القرآن والتفسير ليدلنا على اسم شخص معين هو نبي وليس برسول فإنه لن يجد إلى ذاك من سبيل، لأن هذا إنما يوجد في الأذهان دون الأعيان، فإذا لم نجد ما يدل على الفرق بين النبي والرسول لا في الكتاب ولا في السّنة علمنا حينئذ أنه لا أصل له، وأن القول به جرى على ألسنة العلماء المتأخرين بدون سند من علم اليقين، وأن هذا النبي الذي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه لا يوجد ولن يوجد أبدًا، ويجب تنزيه الأنبياء عن هذا الاعتقاد الذي هو تفريق بينهم.

[96] أخرجه الترمذي من حديث الحارث الأشعري.