متقدم

فهرس الكتاب

 

حكم منكر البعث في الشرع الإسلامي

إن الحكم الشرعي في منكر البعث، وقيام الساعة، متى كان يجهر بإنكاره، فإنه كافر بإجماع علماء المسلمين، لأنه مكذب بالكتاب، وبما أرسل الله به رسله، فيترتب عليه حكم المرتد على السواء، يقول الله سبحانه: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلسَّاعَةِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيرًا ١١ [الفرقان: 11]، وإن كان ممن يخفي ذلك ولا يجهر باعتقاده، فإنه المنافق، يعامل معاملة المسلمين.

إن الساعة آتية لا ريب فيها، فتأتي إلى الناس بغتة وهم غافلون، يقول الله سبحانه: ﴿فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣ [القيامة: 7-13]، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ» قالوا: ما نقول؟ قال: «قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»[89].

وقال: «جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ»[90] فالراجفة هي نفخة الصعق، أي الموت، فينفخ إسرافيل في الصور والرجلان بينهما الرداء، فلا هذا يقبضه، ولا هذا يقبضه، ويرفع الرجل اللقمة فلا يوصلها إلى فمه، ولا يردها في القصعة ﴿وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ ٦٨ وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٦٩ وَوُفِّيَتۡ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِمَا يَفۡعَلُونَ ٧٠ [الزمر: 68-70].

وقد قيل للنبي ﷺ: كم بين النفختين؟ قال: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ» قيل: أربعون يومًا؟ قال: «أَبَيْتُ». قيل: أربعون شهرًا؟ قال: «أَبَيْتُ». قيل: أربعون سنة. فسكت[91] -أي نعم- ثم إن الله سبحانه يأمر السماء أن تدر عليهم بالمطر، فيمطرون ليلاً ونهارًا، فينبت الناس كنبات الطراثيث، فإذا أكمل نباتهم، أمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ﴿كَمَا بَدَأۡنَآ أَوَّلَ خَلۡقٖ نُّعِيدُهُۥۚ وَعۡدًا عَلَيۡنَآۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ ١٠٤ [الأنبياء: 104]، فتخرج الأرواح تتوهج، ويقول الله تعالى: فوعزتي لترجعن كل روح إلى الجسد التي كانت تعمره في الدنيا، فيقومون من قبورهم حفاة عراة غرلاً، وقد قالت عائشة: واسوأتاه، ينظر بعضنا إلى سوأة بعض. فقال: «الأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ»[92] يقول الله سبحانه: ﴿يَوۡمَ يَسۡمَعُونَ ٱلصَّيۡحَةَ بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلۡخُرُوجِ ٤٢إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِۦ وَنُمِيتُ وَإِلَيۡنَا ٱلۡمَصِيرُ ٤٣ يَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلۡأَرۡضُ عَنۡهُمۡ سِرَاعٗاۚ ذَٰلِكَ حَشۡرٌ عَلَيۡنَا يَسِيرٞ ٤٤ [ق: 42-44].

فمتى انقضى عمار الدنيا، وأراد الله أن يجلي أهلها عنها، وأن ينقلهم منها إلى دار أخرى، ليجزي فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فعند ذلك يأمر الله بقيام الساعة. وقد وصف الله القيامة بأسماء وأوصاف متعددة متنوعة، تدل بمعانيها على أنها شيء عظيم، فوصفها بالطامة الكبرى، وبالصاخة، وبالزلزلة، والقارعة، والواقعة، وقال: ﴿إِذَا وَقَعَتِ ٱلۡوَاقِعَةُ ١ لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ ٢ خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ ٣ [الواقعة: 1-3]، وقال: ﴿إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ١ يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ٢ [الحج: 1 -2].

وقال: ﴿ٱلۡقَارِعَةُ ١ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٢ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٣ [القارعة: 1-3] تعظيم لشأنها وكون ذلك يحصل بقارعة تقرع الأرض، فترجها رجًّا، وتبسها بسًّا، ويكون الناس هباءً منبثًّا، وكالفراش المبثوث، فيكوّر بالشمس، ويخسف بالقمر، وتتناثر النجوم من إمساكها المقتضي لإثباتها، وقد بطل ذلك عند القضاء بفناء الدنيا، وخراب العالم، وعدم الاحتياج إلى شيء من ذلك.

وقال سبحانه: ﴿إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ ١ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ٢ إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتۡ ١ وَأَذِنَتۡ لِرَبِّهَا وَحُقَّتۡ ٢ وَإِذَا ٱلۡأَرۡضُ مُدَّتۡ ٣ وَأَلۡقَتۡ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتۡ ٤ [الإنشقاق: 1-4]. -أي ألقت جميع ما على ظهرها من جبال، وأناس، وتخلت عنهم- لكون الناس يحشرون على أرض بيضاء لم يُعصَ الله عليها.

والحكمة في هدم الأبنية، وتسيير الجبال، ودك الأرض، وشق السماء، ونثر النجوم، وتكوير الشمس، وخسوف القمر، وتخريب هذا العالم بأجمعه أن الله سبحانه لما بنى للناس دار الدنيا للسكنى بها، والتمتع بخيراتها، وجعل ما فيها زينة للأبصار، وعظة للاعتبار، والاستدلال على وحدانيته، وجميل صنعه بما يقتضي الإيمان به، وإخلاص العبادة له، فلما انقضت مدة السكنى بها، وحقت كلمة ربك على فنائها، أجلاهم سبحانه منها، وخرّبها؛ لانتقالهم منها إلى غيرها ﴿يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ [إبراهيم: 48]، أراد أن يعلمهم بأن في إحالة الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وتعريض ذلك الصنع العجيب للزوال، كله بيان لكمال قدرته، ودوام بقائه، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وكل ملك زائل إلا ملكه، وأن عنده سبحانه لعباده دارًا هي أبقى وأرقى، وأجل وأجمل من دار الدنيا، ليجزي فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع منه، إلا الذي لم يقدم لآخرته عملاً صالحًا يرجو ثوابه، ويقول: ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا وَمَا يُهۡلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهۡرُۚ [الجاثية: 24]، فهذا الذي ينتقل من دار الدنيا إلى عذاب الآخرة، يقول الله سبحانه: ﴿فَإِذَا بَرِقَ ٱلۡبَصَرُ ٧ وَخَسَفَ ٱلۡقَمَرُ ٨ وَجُمِعَ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ ٩ يَقُولُ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذٍ أَيۡنَ ٱلۡمَفَرُّ ١٠ كَلَّا لَا وَزَرَ ١١ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوۡمَئِذٍ ٱلۡمُسۡتَقَرُّ ١٢ يُنَبَّؤُاْ ٱلۡإِنسَٰنُ يَوۡمَئِذِۢ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ١٣ [القيامة: 7-13].
أما والله لو علم الأنام
لِما خُلقوا لَما غفلوا وناموا
لقد خُلقوا لأمر لو رأته
عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
ممات ثم قبر ثم حشـر
وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشـر قد عملت رجال
فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أُمرنا أو نهينا
كأهل الكهف أيقاظ نيام
والله أعلم.

[89] أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري وأحمد من حديث ابن عباس. [90] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث أبي بن كعب. [91] متفق عليه من حديث أبي هريرة دون قوله: فسكت ودون توجيه سؤال: كم بين النفختين. [92] أخرجه ابن أبي الدنيا في الأهوال.