انقلاب الإيمان نورًا لأهله يوم القيامة
ثم إن هذا الإيمان ينقلب نورًا على أهله بحسبه يوم القيامة، فيكون نورًا على الصراط المعروض على متن جهنم - كالخشبة المعروضة فوق القليب - وهو دحض مزلة تجري بالناس أعمالهم عليه، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل. ومع كونه دحض مزلة وبجانبه كلاليب مثل الشوك تخطف الناس، ومع هذا: فإنه مظلم ويُعطى الناس نورهم كلٌّ حسب إيمانه، فمنهم من نوره كالجبل، ومنهم من نوره كالنخلة، ومنهم من نوره كالسراج، ومنهم من نوره على طرف إبهام قدمه، يتّقد مرة وينطفئ أخرى. يقول الله تعالى: ﴿يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١٢﴾ [الحديد: 12].
﴿يَوۡمَ لَا يُخۡزِي ٱللَّهُ ٱلنَّبِيَّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٨﴾ [التحريم: 8].
ويُعطى المنافقـون نـورًا يدخلـون به طرف الصراط، ثم ينطفئ عنهم، فعنـد ذلك يقولون للمؤمنين: ﴿ٱنظُرُونَا نَقۡتَبِسۡ مِن نُّورِكُمۡ قِيلَ ٱرۡجِعُواْ وَرَآءَكُمۡ فَٱلۡتَمِسُواْ نُورٗاۖ فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ١٣ يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلۡغَرُورُ١٤ فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ١٥﴾ [الحديد: 13-15].
فهذه حالة المنافقين، لما كان إيمانهم خداعًا، فلا صحة ولا أصل لحقيقته، فعند ذلك خانهم أحوج ما كانوا إليه، لأنه ليس معهم إيمان حقيقي حتى يكون لهم نورًا.
ومثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ﴾ [الأحزاب: 35].
وفي مثل حديث جبريل[76]، حين فسر رسول الله ﷺ فيه الإسلام، ثم فسر الإيمان، بتوسط واو العطف بينهما، هو نظير توسط واو العطف بين الإيمان وبين الأعمال الصالحات في كثير من الآيات، كقوله: ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٦﴾ [التين: 6].
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - هو من أطول الناس باعًا، وأوسعهم اطلاعًا في هذه المسألة، وفي غيرها من سائر العلوم والفنون، وما معرفتنا بالنسبة إلى سعة علمه، إلا بمثابة الطفل الصغير بين يدي العالم الكبير.
غير أن العلماء قد اتفقوا على أنه لا يرد الحق الواضح لانفراد قائله، كما لا يقبل الباطل لكثرة ناقله، إذ إن الحق فوق قول كل أحد.
لهذا رأينا شيخ الإسلام ابن تيمية قد اختلفت أقواله في تفسير الإيمان، والإسلام. فأحيانًا يقول بوجود مسلم ليس بمؤمن، ويقول بالاستثناء في الإيمان دون الإسلام، ويقول على حديث «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ»[77]، بأنه يخرج من دائرة الإيمان إلى دائرة الإسلام، ويستشهد لذلك بقوله سبحانه: ﴿۞قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ﴾ [الحجرات: 14]، وبحديث سعد، حين قال للنبي ﷺ: ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا. فقال: «أوْ مُسْلِمًا»[78].
وبحديث جبريل، مما يدل بزعمه على انفراد الإسلام عن الإيمان، ويرجح هذا القول وهذا الاعتقاد، وينسبه إلى الإمام أحمد، وإلى كثير من العلماء، وهذا هو الذي اعتمد القول بصحته، واستقر عليه رأيه، وروايته.
وأحيانًا يرجح القول بأنه لا يوجد مسلم ولا إسلام إلا بإيمان، وأنه لا يوجد مسلم إلا ومعه شيء من الإيمان.
ويفسر حديث «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ» المار ذكره وسنده، أنه يعبر عنه بأنه مؤمن ناقص الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. ويقول: إن الإيمان بمثابة اسم الدين، فيشمل جميع المأمورات، واجتناب المنهيات. ومرة قال: إن الإسلام والإيمان بمثابة الروح مع الجسد، ويستشهد لصحة ذلك بأقوال من يرى صحته، ووجوب اعتقاده من سائر العلماء القائلين به.
فمن ذلك ما نقله عن الإمام محمد بن نصر، في ص 187 من كتاب الإيمان حول الآية ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ﴾ [البقرة: 137].
فحكم سبحانه: بأن من أسلم، فقد آمن واهتدى، ومن آمن: فقد اهتدى فسوّى بينهما في الاهتداء. وأن التفرقة بين الإسلام والإيمان، لا دليل عليها، وقد بينّا خطأ تأويلهم، والحجج التي احتجوا بها من الكتاب والأخبار، في محاولتهم التفرقة بين الإسلام والإيمان. وكونه لا صحة للاستدلال بها على المعنى الذي أراده. والحق أن الإسلام والإيمان شيء واحد.
وقال البغوي في شرح السنة، على حديث جبريل، وفيه ذكر الإسلام والإيمان، فقال: إن النبي ﷺ جعل الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال. وجعل الإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد. وليس ذلك؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو أن التصديق بالقلب ليس من الإسلام، وإنما ذلك تفصيل للجملة، وإلا فهي شيء واحد، وجماعها الدين. انتهى.
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الإيمان عن محمد بن نصر المروزي أنه قال: إن الإسلام هو الإيمان وإن المؤمنين هم المسلمون. وهذا نصه: قال محمد بن نصر المروزي: قالت طائفة من العلماء -وهم الجمهور الأعظم من أهل السنّة والجماعة، وأصحاب الحديث-: إن الإيمان الذي دعا الله العباد إليه، وافترضه عليهم، وارتضاه لهم دينًا، هو الإسلام الذي جعله الله دينًا، وارتضاه لعباده، قال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾ [المائدة: 3]. وقال: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ﴾ [آل عمران: 19]، وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85]، وهو ضد الكفر الذي سخطه، وجعله محبطًا لسائر الأعمال الصالحات، فقال: ﴿وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ﴾ [الزمر: 7]. وقال: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ﴾ [الأنعام: 125]، وقال: ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦۚ﴾ [الزمر: 22]، فمدح الله الإسلام، بمثل ما مدح به الإيمان... ثم قال: ألا ترى أن أنبياء الله ورسله ترغبوا إليه وسألوه إياه.
فقال إبراهيم وإسماعيل: ﴿رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٢٨﴾ [البقرة: 128]. وقال يوسف: ﴿أَنتَ وَلِيِّۦ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١﴾ [يوسف: 101].
وقال: ﴿وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبۡرَٰهِۧمُ بَنِيهِ وَيَعۡقُوبُ يَٰبَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٣٢﴾ [البقرة: 132].
وقال: ﴿قُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَآ أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ١٣٦﴾ [البقرة: 136].
وقال: ﴿قُلۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيۡنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ وَيَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَيۡنَ أَحَدٖ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ ٨٤﴾ [آل عمران: 84].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في تعقيبه على هذا الكلام، قلت: مقصود محمد بن نصر -رحمه الله- أن المسلم الممدوح، هو المؤمن الممدوح، وأن كل مؤمن فهو مسلم، فلا بد أن يكون معه إيمان. وهذا صحيح. وهو متفق عليه. انتهى ص 190 من كتاب الإيمان.
وقال أبو طالب المكي[79]: مباني الإسلام الخمسة، يعني: الشهادتين، والصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، والحج. قال: وأركان الإيمان سبعة، يعني: الخمسة المذكورة في حديث جبريل، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار. وكلاهما قد رويت في حديث جبريل كما سنذكره إن شاء الله.
قال: وقد قال قائلون: إن الإيمان هو الإسلام. وهذا قد أذهب التفاوت والمقامات.
وقال آخرون: إن الإسلام غير الإيمان، وهؤلاء قد أدخلوا التضاد والتغاير، فهذه مسألة مشكلة تحتاج إلى شرح وتفصيل، فمثل الإسلام من الإيمان، كمثل الشهادتين، إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم، فشهادة الرسول ﷺ غير شهادة الوحدانية. فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم، كشيء واحد، كذلك الإيمان والإسلام، أحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له. إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه. من حيث اشترط الله للأعمال الصالحة: الإيمان، واشترط للإيمان: الأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك ﴿فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ ٩٤﴾ [الأنبياء: 94].
وقال في تحقيق الإيمان بالعمل: ﴿وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ ٧٥﴾ [طه: 75].
فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقًا ينقل عن الملة، ومن كان عقده الإيمان بالغيب، ولا يعمل بأحكام الإيمان، وشرائع الإسلام، فهو كافر كفرًا لا يثبت معه توحيد، ومن كان مؤمنًا بالغيب، مما أخبرت به الرسل عن الله تعالى، عاملاً بما أمر الله، فهو مؤمن مسلم.
وقد أجمع أهل القبلة على أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، قال: ومثل الإيمان من الأعمال: كمثل القلب في الجسم، لا ينفك أحدهما عن الآخر، ولا يكون ذو جسم حي لا قلب له، ولا ذو قلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى ينفصلان، ومثلهما أيضًا، مثل حبة لها ظاهر وباطن، وهي واحدة لا يقال حبتان لتفاوت صفتهما.
قال ابن القيم في كتاب الفوائد - صفحة 84: الإيمان له ظاهر وباطن وظاهره: قول اللسان، وعمل الجوارح. وباطنه: تصديق القلب، وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حقن به الدماء، وعصم به المال والذرية. ولا يجزئ باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز، أو إكراه وخوف هلاك. فتخلف العمل ظاهرًا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوّه من الإيمان، ونقصه دليل نقصه، وقوته دليل قوته، فالإيمان: قلب الإسلام ولبّه، واليقين: قلب الإيمان ولبّه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة، فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول.... انتهى.
فكذلك أعمال الإسلام، فالإسلام هو ظاهر الإيمان، وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام، وهو من أعمال القلوب.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ»[80]. وفي لفظ: «والإيمان سر»[81]. فالإسلام: أعمال الإيمان، والإيمان: عقود الإسلام، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقيدة. انتهى.
ثم نقول للذين يتعصبون بجواز وجود مسلم ليس بمؤمن: أليس المسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فسيقولون: نعم، لأن الشهادتين من أعمال الإسلام الظاهرة، فمتى ثبت الأمر بذلك، فإنهم مؤمنون بشهادة رسول الله ﷺ لهم في قوله: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»[82].
ثم يقال: هل هؤلاء المسلمون يصلون لله، أو للصنم؟ فإن قالوا: بل يصلون لله. فيقال: هل يتوضؤون لصلاتهم؟ فإن قالوا: نعم، فهم كحالة المسلمين في سائر أعمالهم الظاهرة. فيقال: إن معهم من الإيمان بحسبهم وبشهادة رسول الله ﷺ لهم في قوله: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ»[83].
فمتى كان يفتتح صلاته بالتكبير، ويقول: الله أكبر، فهذا من الإيمان ثم يركع حانيًا ظهره لله رب العالمين، فهذا من الإيمان، ثم يسجد لله، ويضع وجهه الذي هو أعز شيء لديه في الأرض، فهذا من الإيمان بالله.
ثم إننا رأينا من يقول بوجود مسلم ليس بمؤمن، ويستدل بقوله سبحانه: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ ٣٣ وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ ٣٦﴾ [فاطر: 32-36].
وهذا الاستدلال واقع في غير موقعه الصحيح، فإن هؤلاء الأقسام كلهم في الجنة بفحوى القرآن، والدلائل من السنة.
ومن قال من العلماء، إن هؤلاء الأقسام الثلاثة، هم بمثابة الأقسام الثلاثة المذكورين في سورة الواقعة وهم: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة والسابقون السابقون، فقوله خطأ، إذ الآيات في سورة الواقعة صريحة، لأن أصحاب المشأمة: هم أهل النار بالنص الثابت بقوله سبحانه في آخر سورة الواقعة:
﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُقَرَّبِينَ ٨٨ فَرَوۡحٞ وَرَيۡحَانٞ وَجَنَّتُ نَعِيمٖ ٨٩ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩٠ فَسَلَٰمٞ لَّكَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلۡيَمِينِ ٩١ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ ٩٢ فَنُزُلٞ مِّنۡ حَمِيمٖ ٩٣ وَتَصۡلِيَةُ جَحِيمٍ ٩٤﴾ [الواقعة: 88-94].
فهذه الآية الصريحة في كون القسم الثالث، الذين هم أصحاب المشأمة، هم من الكافرين، المكذبين بالقرآن وبالرسول، بخلاف الآية التي نحن بصدد تفسيرها من سورة فاطر.
وأن الأقسام الثلاثة كلهم من أُمة محمد ﷺ ومن أهل الجنة، كما حقق ذلك ابن عباس في تفسيره، وعائشة أم المؤمنين، حين سئلت عن تفسير هذه الآية.
وقد حقق ذلك ابن كثير في تفسيره، حيث قال شارحًا هذه الآية: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم، المصدق لما بين يديه من الكتب: الذين اصطفينا من عبادنا، وهم هذه الأمّة. ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع. فقال تعالى: ﴿فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ﴾: وهو المفرّط في فعل الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات ﴿وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ﴾: وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات ﴿وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ﴾: وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات، والمكروهات، وبعض المباحات.
قال ابن عباس: هم أمة محمد ﷺ أورثهم الله كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وروي عن ابن عباس أيضًا، قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب. والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله. والظالم لنفسه، هم وأصحاب الأعراف، يدخلون الجنة بشفاعة محمد ﷺ.
وكذا روي عن غير واحد من السلف: أن الظالم لنفسه من هذه الأمّة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. انتهى.
والصحيح: أن الظالم لنفسه من هذه الأمة، كما جاءت به الأحاديث عن رسول الله ﷺ من طريق يشد بعضها بعضًا. من ذلك ما رواه الإمام أحمد، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا مِنۡ عِبَادِنَاۖ فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ وَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞ وَمِنۡهُمۡ سَابِقُۢ بِٱلۡخَيۡرَٰتِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِيرُ ٣٢﴾ [فاطر: 32]. فأما الذين سبقوا، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥﴾ [فاطر: 34-35].
وأيضًا ما رواه أبو داود الطيالسي، عن الصلت بن دينار بن الأشعث، عن عقبة ابن صهبان الهنائي، قال: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوۡرَثۡنَا ٱلۡكِتَٰبَ ٱلَّذِينَ ٱصۡطَفَيۡنَا﴾ [فاطر: 32].. الآية. فقالت لي: يا بني، هؤلاء في الجنة. أما السابق بالخيرات، فمن مضى على عهد رسول الله ﷺ وشهد له رسول الله بالجنة. وأما المقتصد، فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم. وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم. قال: فجعلت نفسها -رضي الله عنها- معنا. وهذا منها -رضي الله عنها- من باب الهضم، والتواضع. وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات. لأن فضلها على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام.
هذا: وقد سيقت أحاديث أخرى، تدل على أن الأصناف الثلاثة المذكورة في الآية كلهم في الجنة، كما رجح ذلك ابن جرير في التفسير.
وفحوى الآية، تدل على ذلك بالصراحة. وأنهم من هذه الأمّة، وكلهم في الجنة.
فذكر سبحانه وراثتهم للكتاب، وهو منزلة عالية، وصفة سامية. ثم ذكر أنه -جلَّ وعلا- اصطفاهم. والاصطفاء: هو الصفوة من الشيء. فهم من صفوة الناس. ثم قال: ﴿مِنۡ عِبَادِنَا﴾، فأضافهم إضافة تشريف إلى نفسه الكريمة. ثم ختم الآية بقوله تعالى: ﴿جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا﴾، ولم يستثن منهم الظالم لنفسه، لأن الناس كلهم ظالم لنفسه، وفي الدعاء المأثور، أن النبي ﷺ كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ»[84] وقد قال الصحابة للرسول ﷺ: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟!
ثم إن الله سبحانه أعقب هذه الآية بقوله: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمۡ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقۡضَىٰ عَلَيۡهِمۡ فَيَمُوتُواْ وَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُم مِّنۡ عَذَابِهَاۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي كُلَّ كَفُورٖ ٣٦﴾ [فاطر: 36]. مما يدل على أن الأقسام الثلاثة المذكورة قبلهم، أنهم كلهم من أهل الجنة؛ لكون القرآن الكريم مثاني، إذا ذكر أهل الجنة، ثنّى بذكر أهل النار، ليكون المؤمن راجيًا خائفًا.
* * *
[76] من حديث عمر: «بينما نحن جلوس عند رسول الله..» رواه مسلم [77] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [78] من حديث رواه مسلم . [79] حكاه عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ص 172 من كتاب الإيمان. [80] أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس. [81] ذكره أبو طالب المكي في قوت القلوب . [82] رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم، والترمذي، عن العباس بن عبد المطلب. [83] رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي في الشعب عن ثوبان مولى المصطفىﷺ والبيهقي في السنن، والطبراني، عن ابن عمرو بن العاص. [84] رواه البخاري من حديث أبي بكر الصديق.