أول اختلاف وقع زمن الصحابة في مرتكب الكبائر
إن مسائل الإيمان والإسلام، والكفر والنفاق، هي مسائل عظيمة جدًّا، لأن الله سبحانه علق بهذه الأسماء مسمياتها من الأحكام ومتعلقاتها من السعادة والشقاوة، واستحقاق الفوز بالجنة، والنجاة من النار.
والاختلاف في مسمياتها هو أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث كانوا يكفرون بالذنب، وأخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في حظيرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار؛ من استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وتأوّلوا قوله سبحانه: ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا ٩٣﴾ [النساء: 93].
وجماعة أهل السنة يقولون: هذا جزاؤه إن جازاه. ولكن قد يتخلف هذا الجزاء بمقتضى عفو الله عنه، أو بالتوبة المقبولة، أو الحسنات الماحية، أو المصائب المكفرة، ومن نوقش الحساب عذب.
ومثله حديث: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[65].
فهذا الحديث مما استدل به الخوارج، وهو من أحاديث الوعيد تمر كما جاءت، وهو نفي لكمال الإيمان، وليس بنفي لأصل الإيمان، لكون نفي البعض لا يستلزم نفي الكل. ولأن الناس متفاوتون في الأعمال، فمنهم كامل الإيمان، ومنهم ناقص الإيمان، ونحن إذا تكلمنا في الإسلام والإيمان، أو في المسلمين والمؤمنين، فإنما نتكلم على حالة الناس الظاهرة حسب القاعدة.
فمن يتسمى بالإسلام أو الإيمان، وهو لا يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدي الزكاة الواجبة، ولا يصوم رمضان، فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش لا حقيقة له، ما هو إلا إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنّة والقرآن. ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان. يقول الله: ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ﴾ [المائدة: 41].
ومثله قول النبي ﷺ: «لَا يُؤْمِنُ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[66]، وكذلك قوله: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[67]، فكله نفي لكمال الإيمان وليس نفيًا للإيمان بالكلية.
ومثله قول النبي ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» رواه أهل السنن، من حديث ابن عمر وفضالة بن عبيد، فإنه يعني بذلك: كمال الإسلام والإيمان، وإلا فمن المعلوم أن السلامة من اليد واللسان، والأمن على الدماء والأموال، هو أمر يتصف به المسلم والكافر على السواء.
نظيره حديث: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ»[68] فهذا نفي لكمال الصلاة أيضًا، وليس بنفي للصلاة من أصلها. فقد قال الفقهاء بجواز صلاته، وكونها تؤدي فريضته.
فتشبث الخوارج بمثل هذه الآية السابقة، وبمثل هذه الأحاديث. ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة في قولهم بالمنزلة بين المنزلتين؛ يعني أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مسلم.
ثم حدث خلاف المرجئة، وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان.
﴿فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣﴾ [البقرة: 213] فقالوا: المسلم مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وربما قالوا: المسلم العاصي ناقص الإيمان.
[65] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [66] رواه البخاري عن أبي شريح الكعبي. [67] متفق عليه من حديث أنس بن مالك. [68] رواه مسلم عن عائشة، رضي الله عنها.