[حقيقة الإسلام والإيمان]
أما بعد: فإن الناس في قديم الزمان وحديثه، قد اشتغلوا بالخوض في موضوع الإسلام والإيمان، في حالة اجتماعهما وتفرّقهما. وقد اختلفت أفهامهم فيهما لاختلاف النصوص الواردة في شأنهما.
وأشهر ما ورد في حقيقة الإسلام هو: ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر أن النبيﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
ثم ما رواه مسلم من حديث عمر، في سؤال جبريل حيث قال للنبي ﷺ: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الْإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». قال: صدقت. ثم قال: أخبرني عن الإيمان. فقال: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ». قال: صدقت. ثم قال: أخبرني عن الإحسان. قال: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». قال: صدقت. رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفي آخره قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».
وفي حديث وفد عبد القيس عن ابن عباس، أن النبي ﷺ قال: «آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا الْخُمُسَ»[58].
ففسر الإيمان بشرائع الإسلام، ويدل عليه ما في الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً». وفي رواية: «بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، أَعْلَاهَا: قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَدْنَاهَا: إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ».[59]. وهذه الشعب هي أقوال وأفعال، فهي من عمل الإسلام. وقد سمّاها رسول الله ﷺ بالإيمان، لشمول الإيمان للأعمال، ولكون الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان. قال ابن أبي شيبة: لا يكون إسلام إلا بإيمان، ولا إيمان إلا بإسلام. حكاه عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان ص 171.
وجاء رجل إلى أبي ذر، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية: ﴿۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ١٧٧﴾ [البقرة: 177]. فقال الرجل: ليس عن البر سألتك. فقال أبو ذر: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فسأله عما سألتني عنه، فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال له رسول الله ﷺ: «المؤمن إذا عمل حسنة سرّته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها» رواه ابن مردويه، وذكره ابن كثير في التفسير.
وقد قال العلماء: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا تفرقا، فيفسر الإيمان باعتقاد القلب بوجود الرب، ووجود ملائكته، والبعث بعد الموت، والجنة والنار.
ويُفسر الإسلام بعمل الجوارح، من النطق بالشهادتين، وبالصلوات الخمس المفروضة، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، والحج.
وهي أعمال ظاهرة، كما أن الإيمان من الأعمال الباطنة، وقد اجتمعا بهذا التفسير في حديث رواه الإمام أحمد عن أنس، أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ». فلابد من اجتماع الإيمان والإسلام في الشخص. ومعنى كون الإسلام علانية، أن المسلم على الحقيقة لابد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه، فيرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس، فيشهدون له بموجبه. وهذا معنى العلانية.
ويدل عليه قول النبي ﷺ: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ»[60]. أي يعرف به صاحبه، فترك الواجبات الظاهرة دليل واضح على انتفاء الإيمان الباطن، إذ إن الإيمان الصحيح في القلب، مستلزم للعمل الصالح بحسبه، ويمتنع أن يكون في القلب إيمان تام بدون عمل.
والإيمان في إطلاقه بمثابة اسم الدين في شموله.
وهذا معنى قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ»[61].
يشير بهذا إلى أنه متى صلح القلب بعقيدة الإيمان، نشطت الجوارح بأداء واجباتها، وإذا اختل صلاح القلب، اختل عمل الجوارح، وقد وصفوا القلب بالملك، والجوارح جنوده التابعة له، تسعد بسعادته وتشقى بشقاوته، أشبه بالروح مع الجسد.
وروى البخاري في تاريخه عن أنس، أن النبي ﷺ قال: «ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحن نحسن الظن بالله. وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل». أخذها الحسن البصري، فقال: ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال. ولهذا قال أبو ثور: الإيمان تصديق وعمل.
ثم ليعلم أن هذه المباني الخمسة الواردة في حديث ابن عمر، أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالحَجِّ»[62].
فهذه أصل الإسلام لمن سأل عن الإسلام، كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار، وكما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان، وبها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد ذاق طعم الإيمان: من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا رسولاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب الإيمان: إنه مما يسأل الناس عنه كثيرًا، قولهم: إذا كان مما أوجب الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمسة التي هي أركان الإسلام، فلماذا قال: الإسلام مبني على هذه الخمس: الشهادتين، والصلاة، وأداء الزكاة، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام؟
ثم قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ».
فأجاب: بأن هذه هي أظهر شرائع الإسلام وأعظمها، وبقيامها يتم استسلامه للإسلام، وبتركه لها يشعر بانحلاله عن قيد الإسلام.
قال: والتحقيق أن النبي ﷺ ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقًا، والذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادرًا عليه، ليعبد الله بها، مخلصًا له الدين، وهذه هي الأركان الخمسة.
وما سوى ذلك، فإنما يجب بأسباب المصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن تكون فرضًا على الكفاية كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة، وحكم، وفتيا، وتحديث، وغير ذلك. وإما أن يجب بسبب حق الآدميين يختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه، وكذلك ما يجب من صلة الأرحام، وحقوق الزوجات، والأولاد، والجيران، والشركاء، والفقراء، وكذلك قضاء الديون، ورد الغصوب، والعواري، والودائع، والإنصاف من الظالم، ومن الدماء، والأموال، والأعراض.
فكل هذه، هي حقوق الآدميين، وإذا أُبرئوا منها سقطت، وتجب على شخص دون شخص، وفي حال دون حال، ولم تكن عبادة لله يختص بها كل أحد؛ ولهذا يشترك في أكثرها المسلمون واليهود والنصارى، بخلاف الأركان الخمسة، من الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج - مع استطاعته - فإن وجوبها خُص بكل أحد من المسلمين.
والزكاة، وإن كانت حقًّا ماليًّا فهي واجبة لله، و للأصناف الثمانية مصارفها، ولم تطلب من الكفار لكونها من شعائر الدين... انتهى.
فمن ادعى وجود مسلم بدون إيمان فقد غلط، إلا في حالة المنافقين، فقد عاملهم رسول الله ﷺ كمسلمين، بما ظهر له من أعمالهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
فقولهم: إن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا؛ هو خطأ، فلا إسلام بدون إيمان، إلا على رأي المرجئة، والجهمية، القائلين: بأن الإيمان مجرد التصديق، فلا يُدخِلون الأعمال في مسمى الإيمان.
وأهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد.
[58] أخرجه البخاري في الصحيح. [59] أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة. [60] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة. [61] رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير. [62] رواه البخاري ومسلم .