الإيمان باليَوم الآخِر
إن الإيمان باليوم الآخر هو الأصل لصلاح الأعمال واستقامتها، والتحفظ على الفرائض والفضائل، والتخلي عن المنكرات والرذائل، ويغرس في القلب محبة الرب والتقرب إليه بطاعته. فهو ينظم الإنسان في حياته أحسن نظام، بحيث يخاف عواقب سيئاته ويرجو ثواب حسناته.أما عدم التصديق باليوم الآخر بالثواب والعقاب والجنة والنار الفظيعة والفواحش الشنيعة، ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا ١٣٦﴾ [النساء: 136]؛ لأن من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ومن خاف الله لم يشف غيظه، ومن اتقى الله لم يضع ما يريد. ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون، وذلك أن المؤمن يعلم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان ودار فناء وزوال ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا ٧ وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا ٨﴾ [الكهف: 7-8] وقد سمى الله الدنيا دار متاع ﴿قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ﴾ [النساء: 77] ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٞ ٢٦﴾ [الرعد: 26]. والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه وقتًا من الزمن ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨﴾ [التوبة: 38].
ثم إن هذا الموت الذي أفسد على أهل الدنيا نعيمهم ولذاتهم ليس هو فناء أبدًا لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١﴾ [النجم: 31] فلا يجزع من الموت ويهوله الفزع منه إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا والذي يقول ﴿مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا نَمُوتُ وَنَحۡيَا﴾ [الجاثية: 24] فهذا هو المفرط في حياته الذي عمّر دنياه وخرّب آخرته ﴿خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ ١١﴾ [الحج: 11] فيندم حينما ينزل به الموت أشد الندم ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥﴾ [الفجر: 24-25] وأنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات وكل ما هو آت آت.
والمؤمن يعتقد أن له حياة في الآخرة هي أبقى وأرقى من حياته في الدنيا، والموت وإن كان مكروهًا لدى النفوس لكنه سبب في انتقال المؤمن من دار الشقاء والفناء إلى دار السعادة والبقاء، ولما قال النبيﷺ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قال الصحابة: يا رسول الله كلنا يكره الموت. فقال: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة فإن كان من أهل الخير وبُشِّر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وإن كان من أهل الشر وبُشِّر بالشر فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»[57].
إن من كانت عقيدته التكذيب باليوم الآخر وإنكار البعث للحساب والثواب على الحسنات والعقاب على السيئات فإنه ينصرف بعقله وعمله واهتمامه إلى العمل في دنياه واتباع شهوات بطنه وفرجه، ويترك فرائض ربه، وينسى أمر آخرته. وقد حذر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثاله فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلۡتَنظُرۡ نَفۡسٞ مَّا قَدَّمَتۡ لِغَدٖۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ١٨ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩﴾ [الحشر: 18-19] أي نسوا حق الله عليهم من صلاتهم وزكاتهم وسائر واجباتهم، فأنساهم الله أنفسهم، أي أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية، وحذر الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم.
فهؤلاء الذين ينكرون وجود الرب، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار هم عند المحققين من علماء المسلمين أكفر من اليهود والنصارى، وضررهم على الإسلام والمسلمين أشد من ضرر اليهود والنصارى، من أجل أن المسلمين يغترون بهم وينخدعون بأقوالهم. ولم يأمر الله سبحانه على لسان نبيه بقتل المرتد عن دينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم عقائدهم وأخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل. فمتى جهر هؤلاء بإلحادهم في بلادهم ترتب على جهرهم فتنة في الأرض وفساد كبير؛ لأن الجهر بالإلحاد هو جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد؛ لأن الناس مقلدون بعضهم بعضًا في الخير والشر.
فمتى وجد من يجاهر الدين بالعداء، ويرمي القلوب بإنكاره وكراهيته، ويدعو إلى الإعراض عنه والتكذيب به وعدم التقيد بحدوده وفرائضه، فأولئك هم نواة الفتنة والمحاربون لله ورسوله، وقد أوجب الله قتلهم وقتالهم وسماهم أئمة الكفر، قال تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢﴾ [التوبة: 12].
فسماهم أئمة الكفر من أجل أن الناس يقتدون بهم في كفرهم وضلالهم. وكان من عادة السلف أنهم يكتبون عقيدتهم في صدر وصيتهم ليعلموا الناس أنهم ماتوا على عقيدة أهل السنة، فيقولون: هذا ما وصى به فلان بن فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. شهادة عليها أحيا وعليها أموت، وعليها أبعث إن شاء الله تعالى... والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حرر في 19 جمادى الأولى سنة 1396.
* * *
[57] أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت.