متقدم

فهرس الكتاب

 

حقِيقة الإسْلام

إن الإسلام هو هذا الدين السمح السهل الحسن، ليس بحرج ولا أغلال ولا شاق، ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة ولا التوسع في التجارة المباحة، بل هو سلّم النجاح وسبب الفلاح. رأسه الإسلام وعموده الصلاة وبقية أركانه الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام مرة عند الاستطاعة، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، بل هي أصل الإسلام لمن سئل عن الإسلام كما في سؤال جبريل حين قال للنبي ﷺ: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال: «الْإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». قال: صدقت. رواه مسلم من حديث عمر، ورواه البخاري من حديث أبي هريرة. وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».

فهذه الأركان بما أنها البنيان للإسلام فإنها الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وهي محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن للإسلام صوىً ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه، ذلك أن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون اختبارهم على صحة إيمانهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فإن هذا الكلام لا نزال نسمعه من لسان كل إنسان، وحتى المشركون الوثنيون الذين يتوسلون بأهل القبور ويتضرعون إليهم في قضاء حوائجهم ويطلبون الشفاعة منهم، فإنهم عندما يفرغون من دعائهم يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فهم مسلمون بألسنتهم، ومشركون بأعمالهم واعتقادهم.

ومن المعلوم أن للإسلام أعمالاً هي بمثابة الدليل والبرهان على صحة الإيمان، كما روى الإمام أحمد من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ» ومعنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة هو من يصلي الصلوات الخمس المكتوبة، ويؤدي الزكاة المفروضة، ويصوم رمضان، ويقوم بشرائع الإسلام، فيظهر إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه. والناس شهداء لله في أرضه، وهذه الأعمال هي بمثابة العنوان لصحة الإيمان بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2] أي لا يمتحنون ولا يختبرون على صحة ما يدعون ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ -أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع وعمل الواجبات وترك المحرمات- ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ -أي في دعوى إيمانهم فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم فصدق فعلهم قولهم- ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣ [العنكبوت: 3] الذين قالوا: آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام هو محض التسمي به والانتساب إليه بدون عمل به ولا انقياد لحكمه، فكانوا كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠ [البقرة: 8-10].

لهذا نجد كثيرًا من الناس في البلدان العربية يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه، لم يبق معهم من الإسلام سوى محض التسمي به والانتساب إلى أهله، وهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يقومون بواجبات دينهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا وشرب الخمر، ولا يدينون دين الحق، قد خرقوا سياج الشريعة واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين.

إن الناس على طبقات شتى فمنهم أناس يتسمون بالإسلام، ويصومون رمضان، لكنهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة في أموالهم، كما عليه عمل أكثر أهل البلدان العربية. ومنهم أناس يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ويصومون رمضان، لكنهم لا يؤدون الزكاة الواجبة في أموالهم، وهم أكثر التجار، فهؤلاء كلهم ممن قال الله فيهم ﴿...وَيَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضٖ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضٖ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيۡنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ١٥٠ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ حَقّٗا [النساء: 150-151].

فلا يكون المسلم مسلمًا حقًّا حتى يأخذ بعزائم الإسلام كلها، وكيف يكون مسلمًا من يصوم رمضان ثم يصر على ترك الصلاة المفروضة التي هي عمود الإسلام والناهية عن الفحشاء والمنكر والآثام، والتي هي آخر ما يُفقد من دين كل إنسان؟! فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين، فلا يستبيح ترك الصلاة مؤمن بوجوبها لما في الصحيح عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ». وفي رواية: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَشْرَكَ»[51] ؛ لأن الإسلام هو الاستسلام لله بالإيمان والانقياد له بالطاعة والصلاة والزكاة والصيام.

إن بعض الناس يعتذر عن أداء الصلاة بعدم نظافة ملابسه وعدم طهارة سراويله، وليست هذه بعذر يبيح ترك الصلاة، فإن الصلاة لا تسقط بحال إلا بزوال التكليف كالجنون، ولو خلصت نيتهم وصلح عملهم وصدق عزمهم لبادروا إلى الطهارة التي هي مفتاح الصلاة والتي يترتب عليها تكفير السيئات، ثم بادروا إلى فعل الصلاة ولكن ﴿كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِيلَ ٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ ٤٦ [التوبة: 46].

ومثله الزكاة فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِۗ وَنُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ١١ [التوبة: 11] وفي الآية الأخرى ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡ [التوبة: 5] وقد جعل الصحابة أداء الزكاة من حقوق الإسلام الذي يجب الجهاد في سبيله، وقد استباحوا قتال المانعين للزكاة وعدّوهم مرتدين بمنعها، ولهذا قال أبو بكر: والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة[52]، فهي من حقوق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ لأن شرائع الإسلام مثل الصلاة والزكاة والصيام واجتناب الحرام كلها تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر والقمار إلا ومفسدته راجحة ومضرته واضحة. فالتخلق بالعمل بالشرائع الدينية هو الذي يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، ويجعل صاحبه متحليًا بالفرائض والفضائل، ومتخليًا عن منكرات الأخلاق والرذائل. لاسيما الصلاة فإنها تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، وتغرس في القلب محبة الرب، ومحبة الجود والكرم وبغض الهلع والجشع ﴿۞إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا ١٩ إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا ٢٠ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا ٢١ إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ ٢٢ ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ ٢٣ [المعارج: 19-23] ولهذا يقال: إن كل متدين متمدن.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
أما عدم الدين فإنه جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد، وإنما تنشأ الحوادث الفظيعة والفواحش الشنيعة من القتل وشرب الخمر وهتك الأعراض ونهب الأموال واختطاف النساء والأولاد من العادمين للدين الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، فلا يرجون عند الله ثوابًا، ولا يخافون عقابًا، كما قال تعالى في صفتهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ ٢٠٤ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ ٢٠٥ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ ٢٠٦ [البقرة: 204-206].

* * *

[51] أخرجه أصحاب السنن والإمام أحمد من حديث بريدة الأسلمي. [52] متفق عليه من حديث أبي هريرة.