متقدم

فهرس الكتاب

 

[هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر؟]

فالجواب: أن الإنسان مخيَّر، أي فاعل مختار لعمله، سواء كان خيرًا، أو شرًّا، فلا يقع فعل مقصود إلا من فاعل مختار، يقول الله: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3]، وقال: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ [الأنعام: 104]، والله سبحانه يقول عند عرض صحائف الأعمال يوم القيامة: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[32].

فمن قال: إن الإنسان مسيّر؛ فإن هذه طريقة الجبرية، القائلين: إن الإنسان لا يعدو أن يكون مجبورًا محضًا في جميع أفعاله، وتصرفاته، ويصفونه في تصرفه بالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح اضطرارًا، لا اختيارًا.

وينشدون في ذلك:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إيّاك إياك أن تبتلّ بالماء
وأقول: إن هذا الشعر هو من الكذب المفترى على الله، وعلى رسوله، وعلى القضاء والقدر، فما ذنب القضاء والقدر؟! ولكنهم المذنبون يجادلونك بالباطل ليدحضوا به الحق، فهو بعيد عن الحق، فإن الله سبحانه لم يخلق الإنسان في الدنيا مكتوفًا عن العمل والسعي، والأخذ بأسباب الحول والقوة، وسائر ما يؤهله من السعادة، والوصول إلى الغاية والنعيم في الدنيا وفي الآخرة، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣ [الإنسان: 3]؛ وقال: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡ‍ٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡ‍ِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٨ [النحل: 78]، فهذه هي الوسائل والأسباب التي تنجيه من عذاب الدنيا، وعقاب الآخرة، فيكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته.

أما إذا عطّل الإنسان هذه المنافع، ولم يستعملها في سبيل ما خلقت له، من عبادة ربه، واستعمالها في مصالحه، ومنافعه المباحة، فيكون بمثابة الأعمى والأصم، أو كالميت المكتوف. كما قال سبحانه: ﴿..وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفۡ‍ِٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفۡ‍ِٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ... [الأحقاف: 26]، وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44] وحكى سبحانه عن أهل النار ﴿قَالُواْ بَلَىٰ قَدۡ جَآءَنَا نَذِيرٞ فَكَذَّبۡنَا وَقُلۡنَا مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ كَبِيرٖ ٩ وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ [الملك: 9-10].

فقد خلق الله الإنسان، وخلق له السمع والبصر والأفئدة، وخلق له أيضًا جميع ما يحتاج إليه في الدنيا من المطاعم والمشارب واللباس والأدوية.

فكل العقاقير التي يستعملها الأطباء لعلاج الأمراض، والوقاية من البلاء والوباء، فهي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه، رحمة منه لعباده بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بمرض يزاوله ويشفيه، فهي من قدر الله تعالى التي يقدِّر الله بها دفع البلاء ورفعه، لكون الدواء أمانًا للصحة وقت المهلة، فالقائلون: ألقاه في اليم مكتوفًا، هم الجبرية، الذين يحتجون بالقدر، ويحاولون أن ينزهوا أنفسهم عن سوء ما فعلوا من المنكرات، وترك الطاعات. قال الخطابي رحمه الله: قد يحسب كثير ممن لا علم عندهم: أن القضاء والقدر من الله، عبارة عن إجبار العباد وقهرهم على ما قدره وقضاه، وليس كذلك. وإنما معناه: الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد، واكتسابهم لأعمالهم، والحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم عليها، لمباشرتهم تلك الأفعال، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد.

فالقدر بنسبته إلى الله: عبارة عن سبق علم الله بالعباد، وما هم فاعلون وليس علمه بها هو جبر منه لهم على فعلها[33]. انتهى.

ويحيلون جورهم وفجورهم، من تركهم الطاعات، وارتكابهم المنكرات، وشرب المسكرات، إلى القضاء والقدر. وما ذنب القضاء والقدر؟! ولكنهم المذنبون. فلو تعدى ظالم على هؤلاء بضربه، أو أخذ ماله، أو انتهاك محارمه، ثم احتج على سوء فعله بالقضاء والقدر، فإنه لن يقبل منه هذا الاحتجاج، لعلمه أنه احتجاج باطل، حاول به التوصل إلى باطل ببديهة العقل، فكيف يقبل على الله في ترك طاعاته، وارتكاب محرماته[34]؟!.

ولهذا يرى بعض العلماء: أن يُجاوَبَ الجبرية بالصفع على الوجه، ويقال: هذا قضاء الله وقدره، كما كنت تحتج به. ولمّا جيء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بسارق قد سرق، واعترف. فقال له عمر: ما حملك على السرقة؟ فقال: حملني عليها قضاء الله وقدره. فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. ثم أمر به، فقطعت يده.

ومثله احتجاج بعضهم بقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيّان التحرك والسكون
وهذا أيضًا يعد من أفسد الشعر، يتمشى على عقيدة الجبر، كما ذكرنا فيما سبق. وهذا القول، وهذا الاعتقاد، باطل بمقتضى النقل والعقل، فهم يصورون القضاء والقدر في نفوسهم، بمثابة الغُل في العنق، والقيد في الرجل، بحيث لا يتقصى أحد عنه، ولا محيص للناس منه، وهو مدفوع بقول النبي ﷺ في هذا الحديث: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ». والله سبحانه لم يخلق الخلق في الدنيا سدى مهملين مضيعين كالمكتوفين، بل خلقهم عاملين متحركين مختارين.

ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به اتكاله على قضاء الله وقدره.

وحقيقة القدر: هو الإخبار عن سبق علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنه يعلم ما كان، وما سيكون، كيف يكون؛ لأنه لا يخفى عليه خافية من أعمال عباده. فعلمه بالأشياء قبل وقوعها شيء، والجبر منه عليها شيء آخر. فقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمر، أن النبيﷺ قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة». وهذه الكتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل أن تقع. وهذه الكتابة هي من عالم الغيب، فلا ينبغي أن نشبه كتابته بكتابتنا، ولا قلمه سبحانه الذي يكتب به بأقلامنا.

قال ابن عباس: إن الله خلق الخلق، وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابًا. فكان كتابًا، فأنزل ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧٠ [الحج: 70]. ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان صفحة 199.

وثبت أن الله يدفع القدر بالقدر، وأن الله يمحو القدر بالقدر، وسمع من دعاء عمر، أنه يقول: اللهم إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا، فامحني، وأثبتني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت [35]. والله يقول: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ ٣٩ [الرعد: 39]، مما يدل على أن هذا المحو قد أزيل به كتاب سابق. وفي حديث ثوبان: أن النبي ﷺ قال: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَأَنَّ الصَّدَقَةَ لَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ»[36]. وفي دعاء القنوت «وَقِنَا وَاصْرِفْ عَنَّا شَرَّ مَا قَضَيْتَ»[37]، فأثبت في هذا الحديث، كون الدعاء يرد القدر والقضاء، كما أن الصدقة تدفع ميتة السوء. وكذا قوله: «وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ»، سواء حملناه على زيادة الأيام والليالي، أو على البركة في العمر، والكل واقع بقضاء الله وقدره.

فالأنبياء، والعلماء، دينهم الأمر، ويقدمونه على القدر. فقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيّان التحرك والسكون
هو قول باطل قطعًا. فلا يكون التحرّك مثل السكون، إذ إن مدار الشرع على الأمر والنهي، وأصدق الأسماء: حارث وهمّام. فالهمّام: هو الذي يهم بقلبه، سأفعل كذا. والحارث: هو الذي يسعى بيديه ورجليه إلى تحقيق آماله، والسعي في أعماله، وقد قيل:
المسلم الحق يصلي فرضه
ويأخذ الفأس ويسقي أرضه
يجمع بين الشغل والعباده
ليكفل الله له السعاده
وقد قلنا بأن المرض الذي يصاب به الشخص، هو من قضاء الله وقدره، وأن الدواء الذي يعالج به ليشفيه، هو من قضاء الله وقدره أيضًا، فهم يشربون الدواء الكريه المرّ ليقيهم من الوقوع في الضر، كما قيل:
وخذ مرًّا تصادف منه نفعًا
ولا تعدل إلى حلو يضـر
فإن المرّ حين يـسر حلو
وإن الحلو حين يضـرّ مر
وقد ثبت في الحديث: «بَادِرُوا بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّى الصَّدَقَةَ»[38]. وفي مراسيل الحسن، أن النبي ﷺ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةَ، واسْتَعِينُوا عَلَى حَمْلِ البَلاءِ بِالدُّعَاءِ والتَّضَرُّعِ»[39]. والدعاء يتعالج مع البلاء بين السماء والأرض، فلا يعجز أحدكم عن الدعاء، ويقول: إن كان هذا الأمر مكتوبًا لي، فسوف يأتيني، دعوت، أو لم أدع. فإن هذه طريقة الملاحدة الذين يحاولون إبطال عبودية الدعاء، وهو مخ العبادة. وقد قدر الله بعض الأشياء، ولا يحصلها الإنسان إلا عن طريق الدعاء. وإن لم يدع لم تحصل له ﴿وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ [محمد: 38]. ﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182]

* * *

[32] رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه. [33] نقله عنه شيخ الإسلام في منهاج السنة . ونقله الخازن في تفسيره على قوله سبحانه: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩ [القمر: 49]. [34] يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته عن القضاء والقدر: القدر نؤمن به، فمن احتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول، ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولاً، لقبل من إبليس، وغيره من العصاة، ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب الله أحدًا من الخلق لا في الدنيا، ولا في الآخرة. ولو كان القدر حجة، لم تقطع يد سارق، ولا قتل قاتل، ولا أقيم حد في جريمة، ولا جوهد في سبيل الله، ولا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر. [35] رواه الفاكهي وابن بطة عن أبي عثمان النهدي. [36] أخرجه أحمد في مسنده من حديث رافع بن مكيث. [37] أخرجه أصحاب السنن من حديث الحسن بن علي. [38] أخرجه البيهقي في الكبرى من حديث أنس. [39] رواه أبو داود في مراسيله عن الحسن البصري.