متقدم

فهرس الكتاب

 

ربط الأسباب بالمسببات

وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله، وأصحابه، وكل ما شرعه رسول الله ﷺ لأمته، وأمر به، فإنه من الدين الذي يجب اتباعه، واستعماله، ويدخل في عموم قوله: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ»[30].

فالأنبياء والعلماء دينهم الأمر، وعليه مدار العمل، مع إيمانهم بالقضاء والقدر، فهم يقدمون الأمر، ويحاربون القدر بالقدر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما بلغه أنه قد وقع الطاعون بالشام، فامتنع عن دخول البلد من أجله، وعزم على الرجوع بأصحابه، ولما قال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم، نفرّ من قدر الله، إلى قدر الله[31].

ويقولون: القدر لا يمنع العمل، ولا يجب الاتكال عليه، لا الاحتجاج به، إلا في حالة بذله للأسباب التي تقيه وترقيه وتحفظه، فمتى غلبه الأمر بعد ذلك، فإنه لا يلوم نفسه على تقصيره أو تفريطه، ولن يلومه الناس، إذ قد ينزل بالشخص من البلايا والمحن، ما لا طاقة له به؛ ولهذا قال: «ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا» ؛ لأن هذا من اللوم المذموم. فالعاقل يأخذ في أموره بالحذر والحزم وفعل أولي العزم، فمتى غلبه أمر لا يطيق دفعه، ولا رفعه، فعند ذلك يلتجئ إلى قوله: هذا قدر الله، وما شاء فعل. ليسلّي نفسه.
على المرء أن يسعى ويبذل جهده
وليس عليه أن تتم المقاصد
أما إذا غلبه أمر بسبب ضعفه وعجزه وتقصيره بأخذ الحيطة، ووسائل الوقاية والحفظ فإنه ملام على عجزه، ولا معنى لاحتجاجه بقضاء الله وقدره ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ [النساء: 79].

ولما قصّر الصحابة يوم أُحد في حمايتهم، وأهملوا الشِّعب الذي أمرهم النبي ﷺ بحفظه حتى دخلت عليهم خيل المشركين من جهته، فقتلوا سبعين من الصحابة، وكانوا يظنون أنهم لن يغلبوا، من أجل أنهم جند الله، والمجاهدون في سبيله مع نبيّه، فأنزل الله ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡۗ [آل عمران: 165] أي بسبب تقصيركم بحفظ بيضتكم، وحماية ثغركم.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التوكل، إنما يكون مع الأخذ بالأسباب. وإن ترك الأسباب بدعوى التوكل، لا يكون إلا عن جهل بالشرع، أو فساد في العقل، فالتوكل محله القلب. والعمل بالأسباب، محله الأعضاء والجوارح، والحركة، والإنسان مأمور بالأسباب ﴿فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ [العنكبوت: 17]، ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ [الملك: 15]. يسأل بعضهم:

[30] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [31] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف.