التذكير بحديث «المؤمن القويّ أحب إلى الله من المؤمن الضعيف» وفيه بيان القضاء والقدر على الوجه الصحيح
وبما أنه بقي الكلام على موضوع حديث جبريل، وفيه «وَأَنْ تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» [23]. فقد يشكل على أكثر الناس حقيقة هذا القدر الذي يجب الإيمان به، فيتخبطون في وصفه وتفسيره، بما يبعد عن حقيقته، ويبعد القلوب عن فهمه.. لهذا وجب أن نبين للناس حقيقة القدر الذي يجب الإيمان به، ونقدّم قبله الكلام على حديث «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»، إذ فيه بيان حقيقة القدر، ومحاولة محاربته، وعدم الاتكال عليه.
فقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ».
وأقول: إن هذا الحديث، هو من جوامع الكلم، ومهمات الحِكم. فهو بمثابة الموعظة الفصيحة، والنصيحة الصحيحة، التي حث النبي ِﷺ عليها أمته، وأحب منهم أن يتخلقوا بمدلوله الذي فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
بدأه بقوله: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»، لكون القوي يزيد على الضعيف بقوته، والقوة في سبيل الحق والعدل مطلوبة شرعًا، ومحبوبة طبعًا.
ولهذا يستحبون الغزو مع الأمير القوي الفاجر، ويفضلونه على الغزو مع الأمير المؤمن الضعيف. ويقولون: إن إيمان الضعيف، وضعفه يضر بالناس، وإن فجور الأمير القوي لنفسه، وقوته تنفع الناس.
ولهذا كان من سيرة عمر بن الخطاب: أنه كان يفضّل الأمير القوي، ويقدمه في الولاية على الضعيف. كما ولى زياد بن أبيه وأمثاله. وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة.
ويستحبون في القاضي: أن يكون قويًّا من غير عنف، لينًا من غير ضعف، حليمًا، ذا أناة وفطنة. وقد قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نجح الأمور بقوة الأسباب
فالقوة الممدوحة هنا، شاملة للقوة في الدين والدنيا، لكونه يقوم في أعماله بجد وعزم، ويأخذ بأسباب الحزم. وقد قيل:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
ولهذا قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ».
فهذه من أجمع الكلمات، وأفصح العظات، ترشد الإنسان إلى الحرص فيما ينفعه في أمر دينه ودنياه وبدنه، فمتى احتاج إلى علاج يزيل به ضرره، ويدفع به مرضه، فإنه يبادر إلى الأخذ بأسبابه، والدخول عليه من بابه، لأن دين الإسلام، يجمع بين مصالح الروح والجسد، وبين مصالح الدنيا والآخرة. ففي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «ما نزل داء، إلا وله دواء، علمه من علمه، وجهله مَنْ جهله»[24]. وقال: «تَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[25]. فيستعمل الدواء الكريه المرّ، خوفًا من الوقوع في الضر. كما قيل:
نحن في دار بليات
نعالج آفات بآفات
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطعن في الأسباب قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل. والله سبحانه يحب الكَيْس -أي الحزم- ويلوم على العجز. وفي الحديث: «كُلُّ شَيءٍ بِقضَاءٍ وَقدَرٍ، حَتَّى العَجزِ وَالكَيْسِ»[26]. فالعجز هو التواني، والكسل في الأمور، وعدم الأخذ بالثقة، وعمل الحيطة في كل ما يقيه ويرقيه. ولهذا قيل:
الحزم أبو العزم أبو الظفرات
والترك أبو الفرك أبو الحسرات
فقول النبي ﷺ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ»، يشمل هذا كله، كما يشمل الحرص على أمر دينه، من المحافظة على كل فرائض ربه التي ينتظم بها أمر حياته وآخرته، فإنها نعم العون على ما يزاوله من أمر الدنيا. وفي الدعاء المأثور «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي»[27]. وقد مدح الله الذين يقولون: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٢٠١﴾ [البقرة: 201].
فلا ينبغي للإنسان أن يعجز عما يعود عليه نفعه، من أمر دينه، ودنياه فإن العجز نتيجته الحرمان. وقد قيل:
دع التكاسل في الخيرات تطلبها
فليس يسعد بالخيرات كسلان
ومن دعاء النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَقَهْرِ الرِّجَالِ»[28]
إن أضر ما ابتلي به الشخص، هو العجز والكسل، وأكثر الناس يجعلون عجزهم توكلاً، وفجورهم قضاءً وقدرًا.
فمتى صارحت الشخص، ونصحته عن ترك الطاعات كالصلاة مثلاً، أو نهيته عن شيء من المنكرات، كشرب المسكرات، اعتذر إليك قائلاً: إنه أمر مكتوب عليَّ. فهو كما قيل: عند ترك الطاعات قدري، وعند ارتكاب المنكرات جبري، نظير ما حكى الله عن المشركين، حيث قالوا: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٣٥﴾ [النحل: 35].
فالمحتج بالقدر حجته داحضة عند ربه، لأنه باحتجاجه بالقدر، يريد أن يبطل الأمر والنهي، اللذين عليهما مدار العبادات والأحكام، وأمور الحلال والحرام، والله سبحانه خلق الإنسان وركّب فيه السمع والبصر والعقل، ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه، واستعمالها في سبيل قوته، ووقاية صحته، وحفظ بنيته. وقد أرشد القرآن الحكيم إلى أخذ الحذر، الذي من لوازمه عدم الركون أو الركود إلى القدر، فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ [النساء: 71]، وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 60]. وقد ظاهر النبي ﷺ بين درعين[29]، وهو محفوظ من الله بكلاءته، وملائكته.
[23] أخرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب. [24] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود. [25] أخرجه أبو داود من حديث أبي الدرداء. [26] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. [27] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [28] رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري. [29] أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد من حديث السائب بن يزيد.