متقدم

فهرس الكتاب

 

[العلم القائم بذات الباري لا يتبدل ولا يتغير]

أما القائم بعلم الله فإنه لا يبدل ولا يغير، فإن الله يعلم أنه سيقع كذا وكذا في وقت كذا وكذا فهذا العلم لا تبديل فيه ولا تغيير، بخلاف الكتابة التي بأيدي الملائكة والتي في اللوح المحفوظ فإنها تتبدل وتتغير بحسب سنة الله في تقدير ما يدفعها ويرفعها كما قال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله[14]. وإنما حكى الله الاحتجاج بالقدر عن المشركين حيث قالوا: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٣٥ [النحل: 35] فأخبر الله بأنه ليس من شأن الرب إجبار الشخص على عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه، لكون ذلك كله موكولاً إلى فعل الشخص نفسه واختياره لها ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ [الكهف: 29]، وقال الله تعالى: ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39].

وإنما وظيفة الرسل تبليغ الهداية والدعوة إلى العباد يقول تعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ [النحل: 36] ويقول: ﴿فَرِيقٞ فِي ٱلۡجَنَّةِ وَفَرِيقٞ فِي ٱلسَّعِيرِ ٧ [الشورى: 7].

فالمحتجون بالقدر يسمون جبرية فقول بعضهم: لا يغني حذر عن قدر. ليس على إطلاقه، فإنه قد يندفع القدر بالحذر. وقد أرشد القرآن إليه لما يترتب عليه من النفع ودفع الضر. فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71] كما قال عمر رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله. في قضية امتناع عمر والصحابة عن دخول الشام لما وقع بها الطاعون، فنادى في الناس: إني مصبح على ظهر. فتأهبوا للرجوع فتلقاه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فقال له: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟! قال: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله[15].

وقد أرشد القرآن إلى أخذ الحذر الذي من لوازمه عدم الركون أو الركود إلى القدر فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71] وقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ [الأنفال: 60] لأن الله سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، فما أذنب القضاء والقدر ولكن الناس يذنبون. يقول تعالى: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ [النساء: 79] وقد قيل -والشعر للعلامة ابن القيم رحمه الله-:
وعند مراد الله تفنى كميت
وعند مراد النفس تسدي وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا
ظهيرًا على الرحمن للجبر تزعم
تنزه منك النفس عن سوء فعلها
وتعتب أقدار الإله وتظلم
وتفهم من قول الرسول خلاف ما
أراد لأن القلب منك معجم
بطيء عن الطاعات أسرع للخنا
من السيل في مجراه لا يتقسم
وتزعم مع هذا بأنك عارف
كذبت يقينًا في الذي أنت تزعم
وما أنت إلا جاهل ثم ظالم
وإنك بين الجاهلين مقدم

[14] متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف. [15] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.