متقدم

فهرس الكتاب

 

[فعل الكفر والإيمان يقع من الشخص باختياره ورغبته ومن كفر فعليه كفره]

وأما قوله: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا».

فمعنى سبق الكتاب إشارة إلى سبق علم الله بخاتمة حياة كل إنسان، وذلك أن الرجل يولد مؤمنًا بين أبوين مؤمنين فهو يؤمن بالله ويحافظ على فرائض الله من صلاته وصيامه وسائر واجباته ويجتنب المحرمات والمنكرات ويسير على هذه الطريقة المستقيمة غالب عمره، ثم يطرأ عليه الإلحاد وفساد الاعتقاد فيكذب بالقرآن ويكذب بالرسول، فيرتد عن دينه فيموت على سوء الخاتمة فيدخل النار بسبب كفره وإلحاده الذي هو خاتمة حياته؛ لأن العمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه، وليس سبق الكتاب -الذي هو عبارة عن سبق علم الله بتطور حالة هذا الشخص- هي التي حملته على الردة وعلى سوء الخاتمة، وإنما وقعت بفعله واختياره لنفسه ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39] وقد حكى الله عن الغلام الذي قتله الخضر فقال: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١ [الكهف: 80-81].

وأما الذي يعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فهو رجل يولد كافرًا ويعيش كافرًا حتى إذا كان في آخر عمره تاب إلى ربه واستغفر من ذنبه، وأسلم فحسن إسلامه فصار يحافظ على واجباته من صلاته وصيامه وسائر عباداته حتى مات على ذلك. يقول الله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ [الأنعام: 122].

وهذه الآية نزلت في الكافر يسلم وأنه في حالة كفره كالميت وكالذي في الظلمات، فلما أسلم صار حيًّا وخرج من الظلمات إلى النور ﴿ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ [البقرة: 257].

وفي وقعة أُحد جاء الأصيرم إلى النبي ﷺ وكان يقاتل مع المشركين أول النهار فأسلم وأخذ يقاتل مع النبي ﷺ فقتل شهيدًا فقال رسول الله: «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا»[10].

وفي حديث أبي سعيد مرفوعًا «إن الرجل يولد مؤمنًا ويعيش مؤمنًا ثم يموت كافرًا، وإن الرجل يولد كافرًا ويعيش كافرًا ثم يموت مؤمنًا» رواه الإمام أحمد، لأن العمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.

وهذا الكفر وهذا الإيمان إنما فعله باختياره ورغبته، ومن كفر فعليه كفره، ﴿وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتٗاۖ وَلَا يَزِيدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارٗا ٣٩ [فاطر: 39]. ولهذا يقول الله: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤ [الأنعام: 104].

والله سبحانه خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وخلق الإنسان وخلق له السمع والبصر والعقل ليعرف بها المنافع والمضار، وكما خلق الإنسان فقد خلق الشيطان ليمتحن بذلك صحة كل من يطيع ربه ممن يطيع الشيطان. يقول الله سبحانه: ﴿وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَيۡهِمۡ إِبۡلِيسُ ظَنَّهُۥ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢٠ وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَيۡهِم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يُؤۡمِنُ بِٱلۡأٓخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِي شَكّٖۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ ٢١ [سبأ: 20-21] فأخبر سبحانه أن الحكمة في خلق إبليس هو اختبار الناس وامتحانهم على صحة إيمانهم، ليعلم سبحانه من يطيع ربه ويعمل لآخرته وهو مؤمن ممن هو شاك مرتاب في أمر آخرته، والله سبحانه ينادي عباده يوم القيامة عند عرض صحائف الأعمال على سبيل الإعذار والإنذار: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُم إِيَّاهَا، فَمَن وَجَدَ خَيرًا فَليَحمَد اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفسَهُ»[11] ولهذا لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم من نفسه أنه مستحق لدخولها بعمله ﴿وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ [الملك: 10].

* * *

[10] متفق عليه من حديث البراء بن عازب. [11] رواه مسلم عن أبي ذر.