[حديث ابن مسعود في خلق الجنين وأنه يكتب أجله وعمله وشقي أو سعيد]
وأما الحديث الثاني الذي يحتج به القدرية من أمثال هؤلاء فهو في الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثني رسول الله وهو الصادق الصدوق «أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها»[9].
إن هذا الحديث كثيرًا ما يجادل به الجهلة خاصة الشباب الذين لم يعرفوا حقيقة القدر، لظنهم أنهم مجبورون على أفعالهم الخيرية والشرية، فيذهب فهمهم إلى أن بعض الناس مكتوب لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم مهما عملوا من عمل، وآخرين مكتوب لهم الشقاوة مهما عملوا من عمل. فيظنون أن هذا القدر المكتوب هو عبارة عن الجبر وسلب الاختيار.
والتحقيق أن الكتابة نوعان: كتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل وقوعها، وأن الله يعلم أحوال خلقه وما هم عاملون وهم في بطون أمهاتهم، فهذه لا تتبدل ولا تتغير وتسمى كتابة الأزل.
وعلمه سبحانه لا يتعلق به إجبارهم على فعل الخير أو الشر، بل هم عاملون لأنفسهم مختارون لأعمالهم الصالحة والسيئة، فهي كسبهم، ويترتب الجزاء على ذلك ﴿مَّنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ أَسَآءَ فَعَلَيۡهَاۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ٤٦﴾ [فصلت: 46]. ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥﴾ [التوبة: 105].
والقرآن مملوء بتعليق الجزاء على العمل، وأن كل امرئ مجازى بما عمل إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولا نسبة عمله إلى القدر، وحجته به داحضة عند ربه.
[9] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود.