متقدم

فهرس الكتاب

 

[استعمال الأنبياء للأسباب والوسائل التي تحفظهم وتؤلهم للوصول إلى الغاية مع قوة توكلهم على ربهم]

وقد كان الأنبياء يستعملون الأسباب والوسائل التي تحفظهم من عدوهم مع أنهم مؤيدون بالوحي والحفظ من الله، وقد ظاهر النبي ﷺ في الحرب بين درعين. ولما كانت وقعة أحد أنزل النبي ﷺ الناس منازلهم تجاه عدوهم، وأنزل عبد الله بن جبير بمن معه بفم الشعب وقال لهم: «الزموا مكانكم هذا ولا تبرحوا عنه حتى ولو رأيتم الطير تخطفنا فلا تنصرونا، أو رأيتمونا نغنم فلا تشركونا» [5] وكانت الغلبة أول النهار للنبي وأصحابه حتى كسروا للمشركين سبعة ألوية أو تسعة، فلما انهزم المشركون أخذت الأسلحة والأمتعة تتساقط من رواحلهم ودب الناس في أخذها، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة. فذكَّرهم أميرهم قول رسول الله فعصوه ودبوا مع الناس في الغنيمة، فدخلت خيل المشركين من ذلك الشعب، فقتلوا سبعين من أصحاب رسول الله، وشجوا رأس رسول الله وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة ظنوه قتيلاً.

وبعدها أخذ الصحابة يتفكرون في سبب هذه الهزيمة، لظنهم أنهم أصحاب رسول الله وحزبه وأنهم لن يغلبوا أبدًا من أجل إيمانهم فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ [آل عمران: 165] أي حصلت الهزيمة بسبب تقصيركم في حمايتكم وعصيانكم أمر رسول الله وأمر أميركم.

لهذا كانوا بعد ذلك أشد الناس احتفالاً بالأسباب؛ لأن الله تعالى ربط الأسباب بمسبباتها ورسول الله سيد المتوكلين، ظاهر في الحرب بين درعين، ومر على حائط مائل فأسرع السير، فقيل له في ذلك فقال: «أخشى موت الفَجْأة»[6] وقدم رجل مجذوم مهاجرًا فرده رسول الله ومنعه من دخول البلد، وقال له: «ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ».[7] وقال: «لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ».[8] وفي القرآن المنزل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ [النساء: 71] ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ [الأنفال: 60] كل هذه من اتقاء الأسباب التي كان يستعملها رسول الله مع قوة توكله على ربه.

[5] أخرجه الإمام أحمد من حديث البراء بن عازب. [6] أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة. [7] أخرجه مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي. [8] متفق عليه من حديث أبي هريرة.