القدَر هوَ قُدرَة الرحمن
وهو أن تعلم وتؤمن بأن الله على كل شيء قدير، يعلم ما كان وما سيكون كيف يكون. ولما سُئل الإمام أحمد عن القدر أجاب قائلاً: القدر هو قدرة الرحمن. قال ابن عقيل: إن الإمام أحمد شفى القلوب بلفظة مختصرة وهي ذات بيان وشمول معان.
قال الراغب الأصبهاني في غريب القرآن: القدر يدل على القدرة وعلى المقدور. وفي فتح الباري عن أبي المظفر السمعاني قال: إن معرفة القضاء والقدر تتوقف على الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه عليهما ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء العليل.. انتهى.
وصدق أبو المظفر، فإن دلائل القضاء والقدر يجب أن تؤخذ من الكتاب والسنة، إذ هما الدليل الكافي والدواء الشافي، مع قطع النظر عن كلام بعض المفسرين في معنى القضاء والقدر، إذ هو كلام بشر ينقل بعضهم عن بعض القول به فيشتهر وينتشر وربما كان غير صحيح.
إن القدر يدل بمنطوقه ومفهومه على قدرة الرب سبحانه، وعلى تقديره للأشياء بنظام وإتقان وإحكام. وكل من تتبع نصوص القرآن يجدها تدور على هذا البيان. فالقضاء في سائر استعمالاته هو بمعنى الفراغ من الشيء.
فالقضاء والقدر معناهما: أن الله سبحانه قد أوجد هذا العالم مقدرًا بمقادير متقنة مضبوطة محكومة بسنن لا تقبل التغيير ولا التبديل، وأنه قد فرغ من ذلك فراغًا لا يعقبه تعديل ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص، ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ﴾ [النمل: 88].
يقول الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا ٢﴾ [الفرقان: 2] أي جعله مقادير منظمة متقنة محكمة. كقوله: ﴿ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ ٨﴾ [الرعد: 8].
ومنه قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩﴾ [القمر: 49] أي بتقدير ونظام متقن، كل شيء بحسبه فلم يخلق شيئًا بطريق الصدفة ولا الطبيعة. قال ابن جرير في التفسير: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه. وبعض المفسرين يغلطون في تفسير هذه الآية حيث يحملون تفسيرها على القضاء والقدر، ثم يتوسعون في سياق الآثار الواردة في القضاء والقدر، كأن الآية سيقت لذلك وهو خطأ، فإنه لا تعلق للآية بالقضاء والقدر الذي يعنونه، ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ﴾ [المؤمنون: 18] أي بقدر حاجة الناس، ليس بالكثير المنهمر المستمر فيهلك حرثهم ومواشيهم، ولا قطعة واحدة فيضر البنيان، وإنما ينزله رشاشًا قطعًا على حسب ما يخرج من فتحات المنخل بحيث يروي الأرض وتسيل منه الأودية؛ لأنه لو نزل كتلة واحدة لضر الأنام والأنعام والحرث، ولزال منه الانتفاع المطلوب.
نظيره قوله تعالى: ﴿۞وَلَوۡ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزۡقَ لِعِبَادِهِۦ لَبَغَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٖ مَّا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ بِعِبَادِهِۦ خَبِيرُۢ بَصِيرٞ ٢٧﴾ [الشورى: 27]
وقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ﴾ [المؤمنون: 18] هو نظير قوله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَٰهُ بِقَدَرٖ ٤٩﴾ [القمر: 49] لفظًا ومعنى.
وهو يرجع إلى قوله: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ فَقَدَّرَهُۥ تَقۡدِيرٗا ٢﴾ [الفرقان: 2] أي جعله ذا مقادير متناسبة ثابتة. ﴿صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ﴾ [النمل: 88].
نظيره قوله تعالى: ﴿وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِيمِ ٣٩﴾ [يس: 39] أي جعلناه ذا مقادير ينزل كل ليلة منزلة منها لا يتخطاها ولا يقصر عنها، ومنه قوله: ﴿ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ ٤٠﴾ [طه: 40] أي على موعد قدرنا مجيئك فيه، وذلك أن الله وعده بأن يكلمه بعد أربعين ليلة، قال تعالى: ﴿فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ﴾ [الأعراف: 142]
ومثله قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ نَخۡلُقكُّم مِّن مَّآءٖ مَّهِينٖ ٢٠ فَجَعَلۡنَٰهُ فِي قَرَارٖ مَّكِينٍ ٢١ إِلَىٰ قَدَرٖ مَّعۡلُومٖ ٢٢ فَقَدَرۡنَا فَنِعۡمَ ٱلۡقَٰدِرُونَ ٢٣﴾ [المرسلات: 20-23] وقرئ {قدّرنا} - بالتشديد - أي قدّرنا ذلك تقديرًا متقنًا فنعم القادرون، وقرئ بالتخفيف من القدرة أي قدَرنا على خلقه وتصويره في أحسن صورة، فنعم القادرون.
فهذا حقيقة القدر المذكور في القرآن، ومنه قول الشاعر:
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها
فمن علا زلقا عن غرة زلجا
وأما القضاء فإنه الفراغ من صنع هذه المخلوقات، وقد اجتمعا في قوله تعالى: ﴿۞قُلۡ أَئِنَّكُمۡ لَتَكۡفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ فِي يَوۡمَيۡنِ وَتَجۡعَلُونَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ ذَٰلِكَ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٩ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا وَبَٰرَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا فِيٓ أَرۡبَعَةِ أَيَّامٖ سَوَآءٗ لِّلسَّآئِلِينَ ١٠ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ ١١ فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ فِي يَوۡمَيۡنِ وَأَوۡحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمۡرَهَاۚ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَحِفۡظٗاۚ ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ١٢﴾ [فصلت: 9-12] فذكر القضاء في قوله: ﴿فَقَضَىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَاتٖ﴾ كما ذكر القدر في قوله: ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقۡوَٰتَهَا﴾، ﴿ذَٰلِكَ تَقۡدِيرُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ ١٢﴾. فهذا معنى حقيقة القضاء والقدر وأنه خلق الأشياء بنظام وإتقان ثابت لا يتغير بتغير الزمان، كل شيء بحسبه وهذا معنى ما في الصحيحين من أن النبيﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ». وهذه الكتابة هي عبارة عن العلم القائم بذات الله، وهو معنى قول أحدنا: قدر الله وما شاء فعل، قدرة الله أي وسابق علم الله تعالى.