[جدال الملاحدة بالقدر لصد الناس عن الدين بوقوع الشك فيه]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد: فإن القضاء والقدر قد ضل فيه خلق من البشر، حيث حملوه على غير المعنى المراد منه، فتفرقوا فيه شيعًا ﴿كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢﴾ [الروم: 32].
﴿فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ ٢١٣﴾ [البقرة: 213] وقد صار من سيما الملاحدة - أهل الجدل- شدة اللحاح في السؤال عن القضاء والقدر، لا لأجل الاستفادة والاستفسار عن الحق وإنما هو لأجل التضليل به والتشكيك فيه، فعندما تلقى أحدهم فإنه يبادرك بالسؤال عن القدر لكونهم وجدوا فيه -لظنهم- نوعًا من العذر لهم في إسقاط الواجبات وارتكاب المنكرات وشرب المسكرات. حتى إذا أمرت أحدهم بالخير أو نهيته عن الشر قال: هذا أمر كتبه الله علي. يريدون أن يلقوا جريمتهم على كاهل القضاء والقدر، لاعتقادهم أن القضاء والقدر بمثابة الغل في أعناقهم والقيد في أرجلهم، وحجتهم به داحضة عند ربهم؛ لأنهم على طريقة المُجْبِرة فما أذنب القضاء والقدر ولكنهم المذنبون ﴿يُجَٰدِلُونَكَ فِي ٱلۡحَقِّ بَعۡدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلۡمَوۡتِ وَهُمۡ يَنظُرُونَ ٦﴾ [الأنفال: 6].
وقد يتجارى بهم الهوى والتوسع في فنون الفجور فيقولون: كيف يكتب الرب علينا الشقاء ثم يعذبنا بالنار؟!
وسُمع من بعض الملاحدة قوله: كيف يخلق الله إبليس ويسلطه على الناس ثم يعذب من أطاعه بالنار، والذنب ذنب الذي خلق إبليس؟!! تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا. وهؤلاء يسميهم العلماء مجوس هذه الأمة؛ لأنهم على طريقة المجبرة يرون أنهم مجبورون على فعل الجرائم بطريق القضاء والقدر.
قال الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله العبد وقهره على فعل ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمون وإنما معناه الإخبار بسبق علم الله بما يكون من إكساب العبد وصدورها عن اختيار منه. والله سبحانه قد أعذر وأنذر لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فأنزل القرآن فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، يفرق الله فيه بين طريق أهل الكفر والإيمان والهدى والضلال، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ﴾ [النحل: 36] وأنزل الله على سبيل الإعذار والإنذار: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ لَا يَفۡتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ كَمَآ أَخۡرَجَ أَبَوَيۡكُم مِّنَ ٱلۡجَنَّةِ﴾ [الأعراف: 27].